قال: أحسبك تعمق في التحليل كعادتك، حتى يكاد التكلف يلحق بتفكيرك
قلت أني أكلف بالمعرفة، وابغض التكلف، ويشفعني إحالة المظهر إلى المنطق، فإذا كنت مغيظا، ساكون دائما غائظك!
قال: مادمت تحلل نفسية الكاذب، فلا أجند حبيباً إلى قلبي سوى إغاظتك لي!
قلت: وما الإصر الذي اثقل نفسك حتى جعلك مثقلا بالهموم؟
قال: أن الكذوب يسخر مني، ويحسبني في غفلة!
قلت: في مقدورك أن تحيله إلى غفلته؛ فيكون هو المغفل!
قال: ها أنت ذا تعمد إلى الإيهام حتى تغمض عين أسلوبك!
قلت: ليس ثمة غموض ولا إغماض؛ فالأمر ايسر من أن تملأ به تفكيرك السليم؛ فالكذب (تعمية)، ولا يعمي الأمور بسوي الضعيف المتهافت على الخداع، لأنه يرى في أعماقه (غموضا)، ويخشى أن ينكشف هذا الغموض الذي يستقل به إحساسه. فما أشبهه بالمتلصص الذي يريد السرقة على ضوء مصباحه، لأنه يسرق نفسه، ويغش حسه، في حين يعتقد أنه موهم وهو واهم!
قال: أغريزة الكذب؟ أم خليقة مصنوعة؟
قلت: لقد قرأت عنه، لكن لم يرضني ما قرأت. وليس ذلك غروراً؛ فإن المنطق أساس المعرفة في عقدي، والكاتبون لم يطلوا إلا من نوافذ نفسية ضيقة محيلين الواقع إلى الافتراض، والتخيل، والوهم، مع أن الحقائق الإنسانية يمكن استقاؤها من أسلوب السلوك، والكذب مظهر من مظاهره؛ فلابد أن يكون هناك ارتباط بين حياة الكاذب وطبيعة إعداده، وتكوينه، وتنشئته، والحياة لم تمنح الأفراد منحها على غرار واحد؛ فنشأ (الحرمان) الذي يوجد في النفوس المحرومة ثغرات تتسع كلما تقدمت الأيام بهذه النفوس؛ والمنطق الطبعي يجعل سلوك المحرومين ذا شذوذ نؤاخذه عليهم في الوقت الذي نضني فيه ولا نؤاخذ أنفسنا