أرى الناس في هذه المركبة أبداً مرهفي الأعصاب، وقل من رأيته فيها مطمئناً هادئاً، وعلى الأخص في الصباح وعند الظهيرة؛ وليس الأمر قاصراً على الراكبين، فقاطع التذاكر عصبي اللفتة عصبي الكلمة عصبي الزمارة؛ والسائق من فرط يقظته، أو من فرط توجسه مما يخبئه له القدر، زائغ البصر، مذعور الوجه والعينين؛ يغضب لأي بادرة، وينفذ صبره - إن كان ثمة لديه من صبر - لأقل سبب أو لغير سبب!. . .
وأمر قاطع التذاكر وصاحبه يمكن أن نرده إلى أسبابه في غير مشقة. . . ولكنني من أمر الراكبين في حيرة! مم تضيق صدورهم وتنقبض نفوسهم، حتى لتقع العين منهم على قوم كأنما يساقون على رغمهم إلى ما لا يحبون؟. . . أيكون مرد ذلك إلى أنهم في الصباح مقبلون على عبء اليوم من العمل، فهم متبرمون عابسون، وأنهم في الظهيرة خارجون من أعمالهم فهم مكدودون ساهمون؟ أم يكون ذلك لأنهم يستبطئون هذه المركبة وليس لهم عنها منتدح؟. . .
ومهما يكن من سبب، فتلك ظاهرة أشاهدها في معظم الوجوه كل يوم، ولم أخل أنا منها، ولكنني لا أتبرم من العمل أو يؤودني حمله، وليصدقني القارئ في ذلك أو فليكذبني إذا شاء فليس هذا ما أردته بهذه الكلمة.
وإنما أردت أن أصور له منظراً رأيته جديراً بأن يغضب الراكبين جميعاً ولو كانوا كلهم هادئين: فهذا شاب من شبابنا المثقفين، أو ممن يدعون من الوجهة الرسمية (مثقفين)، انتهت المسافة التي تبلغه إلى نهايتها تَذْكرته؛ فطلب إليه قاطع التذاكر أن يدفع أجراً جديداً إذا شاء أن يستمر راكباً، ولكن صاحبنا أبى ذلك دون أن يبدي أية علة، ثم استكبر أن يجادل الرجل؛ فاتجه ببصره إلى الأمام، ورفع رأسه إلى آخر ما يستطيع حتى كادت تتدلى إلى الخلف!. . .
ونفخ الرجل في زمارته، فوقف الترام، وانتزع السائق مفتاحه، وجاء إلى حيث وقف صاحبه، ووقف خلف هذا الترام خمسة غيره أو ستة، وأخرج معظم الراكبين ساعاتهم، وشاعت في وجوههم إمارات الغضب والقلق والاستنكار. . .