وجاء نفر من هؤلاء العمال، ووقفوا جميعاً ينظرون إلى هذا الذي كان سبباً في هذا التوقف: فرأوا فتى بادي الفتوة، عبل الساعدين، عريض المنكبين، غليظ العنق؛ ورأوه لا يلتفت إليهم، بل لا يعبأ بتلك النظرات التي رشقته من كل ناحية من نواحي العربة - وهو في جلسته - شامخ الرأس، هادئ المحيا كأن لم يجر حوله شيء!. . .
وحار هؤلاء العمال - أول الأمر - ماذا يصنعون، وليس فيهم من عابث من قبل دباً أو قرب منه؟!. . . ثم استجمع أحدهم قوته وقرب من هذا الدب وهو على أهبة أن يقفز إلى الخلف عند أية بادرة منه: ثم رجا منه أن يدفع الأجر حتى لا يتعطل الناس. فرماه الدب بنظرة كانت وحدها كافية لأن ينكمش ويتراجع من فوره!. . .
وازداد الناس ضيقاً وسخطاً وقلقاً، وبلغ حنقي غايته. . . ثم جرؤ أحد الراكبين فاقترب من الدب في هيئة لم يسعني معها إلا أن أضحك على الرغم من غيظي. فقد أخذ هذا الراكب يتلطف ويتظرف، ويحاول أن يبتسم، فلا يستطيع من فرط حنقه. . . فيرفع شفته العليا من إحدى زاويتيها، ويكشف عن أسنانه كأنه يبتسم! ثم يربت على كتف الدب ويقول وهو يلوي عنقه مبالغة منه في التواضع:(ألا ترى أنك بهذا تسبب عطلاً لنا جميعاً؟).
. . . وكأن الدب لم يعبأ به لضعفه فلم يزد على أن قال له في هدوء:(أنت حضرتك عاوز تتفلسف؟). . . وانكمش الرجل ولم يلتفت بعدها إلى الخلف أبداً. . .
وكان في العربة بعض الأجانب، فتخاطبوا بالأحداق، وعلقوا على المنظر بالإيماء والابتسام. . . وكان قاطع التذاكر المسكين قد ذهب ليحضر الشرطي، فعاد وهو في صحبته، وقد بلغ قلق الناس أقصاه! وسمع الشرطي القصة. . . فما كان أشد عجب الناس أن يسمعوه يعنف (الكمساري) ويلومه قائلاً له: (ياعني يا سيدي هم الستة مليم دول اللي حايزودوها؟ اطلع يا شيخ بلا عطلة دي محطتين أو ثلاثة وينزل)!!
وكان خزيي أمام الأجانب وخزي الراكبين جميعاً مما فعل الشرطي أعظم مما فعل ذلك الفتى المدل بقوته. ولعله خاف أن يقرب منه كما خاف غيره، وأمره في ذلك أدهى وأمر. . .
وقلت في نفسي: متى تشيع فينا الآداب الاجتماعية؟ ومتى نحس بالوسط الاجتماعي؟. . . ورجوت أن ينسى هؤلاء الأجانب هذا الحادث وأشباهه إذا حدثوا قومهم عن مبلغ ما