وقع في يدي صباح الأمس خطاب لأحد عساكر البوليس كان قد أرسله إلى أبي رحمه الله في سنة ١٩١٥ وهو يومئذ عمدة البلد يخبره فيه أن نزاعاً حدث بين أخته وزوجها ويطلب إليه أن يفصل في هذا النزاع، وفي آخر الخطاب يقول:(والحذر من التأخير)!
لا أعلم ماذا كان وقع هذه الجملة على مسمع العمدة؛ والغالب أنه حملها باسماً على محمل السذاجة والجهل؛ ولكني أعلم أن هذه الجملة لا توجد إلا في قاموس الإدارة فأين وقع عليها هذا الجندي المسكين؟ لقد كان يعمل في أقسام القاهرة، وكان يلاحظ أن هذه الجملة البليغة لازمةٌ رسمية تختم بها الرسائل والطلبات الصادرة من المأمور إلى الجمهور، فرسخ في ذهنه من طريق القدوة الحسنة أن هذا هو الأصل في التحرير، لكل صغير وكبير!
هل تظن يا سيدي القارئ أن هذه العبارة، سقطت من لغة الإدارة، بعد أن انتشر التعليم، في العواصم والأقاليم، وشاع الذوق الكتابي والخطابي بين كل الناس، من حامل القلم إلى حامل الفاس؟ لقد رجعت إلى دفتر الإشارات التليفونية الصادرة إليّ عن المراكز في شهر مايو الماضي فوجدتها سبعين إشارة، ثلاثة أرباعها ينتهي بهذه الجملة التقليدية:(والحذر من التأخير) والربع الباقي ينتهي بعبارات مختلفة، منها (وإلا فالمسؤولية شديدة)، (فلا تلومون (كذا) إلا أنفسكم)، (ومن يهمل سننظر في أمره بشدة). . . الخ الخ. فقلت في نفسي: عجيب! أيمر عليّ خطاب (الجاويش مرسي) ربع قرن ولم يتول الكتابة من خلاله للمأمورين والمعاونين كاتب من حملة البكالوريا يعلَّم سادتنا (الكتاب)، آداب الخطاب، ويفهمهم أن هذه اللهجة وإن صلحت للخفير فلا تصلح للعمدة، لأن العمدة يمثل الحكومة في بلده، كما يمثلها المأمور في مركزه، وإذا كان بينهما فرق فهو أن المأمور يعمل مأجوراً مشكوراً، والعمدة يعمل متطوعاً ومتبرعاً. فهل يجوز أن يكافأ على ما يتحمله من المسؤولية والمشغولية والغرامة، بحرمانه من الأجر والشكر والكرامة؟!