- اجلس قليلاً يا صديقي نتحدث! لقد أصبحت كالطيف النافر لا نسمعك هُتافاً إلا لمحاً ولا نجالسك إلا لماماً
- عصر السرعة يا صديقي! لقد اشتد سائق الركب وأسرع في النغم حاديه! فمن تخلف عن قافلة الحياة افترسه الجوع وتخطفه العدم!
- أوه! أجل يا صديقي! عصر السرعة، أو عصر الآلة، أو عصر الإنسان ذي الزمبلك! أسماء مختلفة لمرض واحد: هو كَلَب هذه الحضارة الغربية!
- أتسمى نشاط الحياة وسرعة العمل ومساورة الرزق مرضاً؟ وأين تكون الصحة إذن؟ أفي الخمود أم في القعود أم في التخلف؟
- رويدك يا صديقي! هل تستطيع أن تقول لي: لماذا يسرع الناس؟ أليقطعوا العمر في أعوام؟ أليفنوا الشباب في أيام؟ أليقضوا اللذة في ساعات؟ وما قيمة كل ذلك في دَرَك السعادة؟ لقد كنا نشتغل بعض اليوم، فأصبحنا نشتغل كل الليل؛ وكنا نعمل باليد، فأصبحنا نعمل بالآلة؛ وكنا ننتقل بالجمل، فأصبحنا ننتقل بالطيارة؛ وكنا نأكل مطمئنين في البيت، فأصبحنا نأكل مضطربين في الشارع؛ وكنا نقيم العرس أربعين يوماً والمأتم سنة، فأصبحنا نقتصر من الفرح على ساعة العقد، ومن الحزن على تشييع الجنازة؛ وكنا نخلق الكائن الفني في دهر طويل من العمر ليكون متعة الذوق والذهن والعاطفة طول الأبد، فأصبحنا نصوره في ليلة ليفرغ الناس من تقديره في لحظة. فهل وجدنا من رخاء الصدر وسكينة الروح مقدار ما فقدنا من راحة البدن وفسحة الأجل؟
- وما يدريني؟ لو أنني أدركت العهدين لجاز أن أحسن الموازنة وأصيب الحكم؟
- أنا الذي أدركت العهدين، وأستطيع أن أقول لك إني أشعر بالفرق بين بطء العيش وسرعته، كما يشعر الظامئ الآمن بالفرق بين الرشيف والجرع، وأدركه كما يدرك المتنزه الشاعر الفرق بين اجتياز الروض على القدم واجتيازه في السيارة. لا ريب أن الشارب إذا ترشف وتمززه كان ذلك أنضح لغليله وأبرد على كبده من العَب الذي يعجل الري ولكنه يؤجل الهناءة. كذلك المتنزه على قدميه يجد في كل خطوة عالماً من الجمال، وفي كل وقفة