في عشية (من عشايا سنة ٤١ للهجرة) ساكتة لا يسمع فيها إلا الصمت، في برية هادئة لا يرى فيها إلا السكون، كان يرى القادم على (الحيرة) إذا هو اجتاز بدير هند، عند النخلة المتفردة التي قامت على الطريق، عجوزاً طاعنة قد انكمشت وانطوت على نفسها وجلست صامتة وحيدة تجيل عينيها الضعيفتين في هذه الدنيا الصامتة التي دارت من حولها، فتبدل كل شيء وهي ثابتة: كانت نبتة طرية مزهرة في ذلك الروض، فباد الروض كله وبقيت هي وحدها حطبة يابسة. وكانت كلمة في كتاب الماضي، فمحيت سطوره كلها وبقيت هي وحدها الكتاب. هذه العجوز التي تراها فتحسبها قد فرغت من الهم، واستراحت من الحزن، تطوى أضالعها على ذكريات ضخمة لعالم كامل أخنى عليه الدهر وأضاعه، ولم يدع منه إلا هذه الذكريات تحفظها وتحملها وحدها. إنها لا تعيش في دنيا الناس ولا يعيشون دنياها إنها لا تعرف شيئاً مما يحيط بها، ولا تنسى شيئاً من عالمها الذي افتقدته من زمان، عالم الحيرة وعديّ بن زيد والنعمان، العالم الذي احتوى مسراتها وأحزانها وروحها، فلما مر حمل ذلك كله معه فعاشت من بعده بلا حب ولا مسرات ولا أحزان ولا روح، إلا هذه الذكريات التي تنقر كل يوم نقرة في قلبها، فلو كان حجراً صلداً لتفتت فكيف وهو من لحم ودم؟
لقد بنت هذا الدير وتوارت وراء جدرانه، وعاشت منه في منطقة الحرام بين الحياتين، فلا هي بحياة الناس الدنيا، فيها متعها وملاهيها ومشاغلها، ولا هي بالحياة الأخرى، منطقة وراء الحياة ودون الموت، هي معيشة الدير. وزادها ضيقاً وجموداً أنها في الدير وحدها، بنته لتأوي إليه تناجي فيه ذكريات حبيبها الذي فجعت به، وعافت لأجله الأرض برحبها وسعتها، وصبرت على هذا السجن الدهر الأطول، لا تدري مما وراء بابه إلا طرفاً مما يحمله إليها رجال القوافل الذين كانوا يمرون بها، وكان أقصى ما تصنعه إذا هي نشطت يوماً، وأحبت أن تفارق منسكها، أن تسلك هذا الطريق الذي طالما مر عليها فاتحون ومنهزمون، وسارت فيه الحضارة مصعدة وهابطة، ومشى فيه ملوك وسوقة، وسوقة وملوك، ذهبوا جميعاً إلى حيث لا يؤوب ذاهب، حتى تتعب من المسير، فتجلس على