عاش في هذه الدنيا قبل ألف عام رجل قضى إحدى وخمسين سنة يعمل في حياته للمجد؛ ركب إليه المكاره واقتحم الغمرات؛ أراد مرة من طريق الدين فخاب، ثم راوغه من طريق الولاية فأخفق، ثم مضى قُدُماً يجالد دون سبيله هذه جيوشاً من أذى الأعداء ونكاية الحساد وكلب الزمان وتخلف الجد
تقاذفته الأقطار ضارباً في الأرض: من حلب، إلى دمشق، إلى فلسطين، إلى مصر، إلى العراق، إلى فارس؛ حتى إذا ملأ الدنيا وشغل الناس وقفل راجعاً من شيراز وشارف بغداد وحط في سوادها الغربي، أحاط به أعداؤه في دير العاقول ليغتالوه، فقاتلهم قتال المستبسل المستميت حتى سقط دفاعاً عن نفسه وشرفه، فصعدت روحه إلى بارئها يحاسبها على ما قدمت في عاجلتها من خير أو شر
وإذا كان موضوعنا البحث في دين الرجل فلا بد أن ننبه قبل الشروع فيه إلى أنا سنخرج على ذلك السخف التقليدي الذي توارثناه في عصورنا الأخيرة جيلاً عن جيل، في تكفير الناس من أجل كلمة قالوها أو عمل قاموا به؛ نتعلق لذلك بأوهى الأسباب ونتكلف له كل التكلف لنخرج مسلماً عن دينه وإن كرهناه، أو نؤول له ما زل به لسانه إن أحببناه. تعقد لذلك المجالس في المساجد والمدارس وعند السلطان، وتؤلف الرسائل وتثار الفتن وتراق الدماء، حتى لقد سؤل الشيطان لبعض الحكام أن يتخذ من عبدة الهوى هؤلاء مطايا يركبها إلى غاياته فيمن يكره من كل آمر بمعروف أو جبّاه بحق أو ثائر على ظلم، فما أسرع ما كانت تخرج الفتيا بالتكفير، وما أسرع الحاكم حينئذ إلى البطش والفتك
ولولا الخروج عن الموضوع لأفضت في شرح هذه الناحية من تاريخنا وما أدت إليه من سوء العقبى، وما جرت على العلم والدين من ويلات وخراب، وخاصة أخريات عصور الجهل، يوم كان يضطلع بهذه المهازل شيخ الإسلام في السلطنة العثمانية. وحسب المرء أن يذكر على سبيل التمثيل آراء المحبين والمبغضين في أجلاء الصحابة - رضي الله عنهم - صدر تاريخنا، ثم أقوال هؤلاء وهؤلاء في الحلاّج ومحي الدين بن عربي وتلك