الطبقة. بل مالي أعمد إلى التاريخ البعيد وفي فجر نهضتنا مثل صالحة من ذلك. فاذكروا إن شئتم الأئمة جمال الدين ومحمد عبده ورشيد رضا ومن لف لفّهم. ألم يرفعهم قوم إلى درجات المصلحين المجتهدين، ويهبط بهم آخرون إلى دركات الكفار أعداء الدين؟!
وغريب منهم هذا الفضول والتطفل والله تعالى لم يجعل إلينا أمر الناس، حتى نزج أنفسنا في هذه المزالق. ومتى ملك بشرٌ أمر بشر والله يقول:(ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء.) أما كان في خوَيصة أنفسهم ما يشغلهم عن الناس والتحكم في آخرتهم؟ وما كان أقربهم من إنصاف لو عرضوا القول أو الفعل على الحق فسموا الأشياء بأسمائها وحكموا عليها بالخطأ أو الصواب ولم يحمّلوا النصوص ما لا تحمل ووكلوا أمر الناس إلى الله، إذن لو فروا على أنفسهم عنتاً طويلاً ووقتاً سيسألهم الله عن إنفاقه في هذه السفاسف والآثام، وجهوداً لم يرزقهم الله إياها ليفرقوا دينه شيعاً ويؤلبوا عباده بعضهم على بعض
وأنا إذ أعرض لدين المتنبي فإنما أحكم على أقوال قالها وعلى هنات صدرت عنه، فأعرضها على الحق، وسواء على الباحث، إذا اجتهد وأخلص، أكان المتنبي بعد ذلك مسلماً أم ملحداً، فما لنا إيمانه ولا علينا كفره، ولا يملك إنسان لإنسان عذاباً ولا ثواباً
أمهد لبحثي بكلمة عن الحالة الدينية في النصف الأول من القرن الرابع الهجري، وهو الأمد الذي عاش فيه شاعرنا؛ وأنا حين أفيض فيه إنما أتكلم عن المتنبي نفسه لشدة العلاقة بين الرجل وعصره، ولأن كل شيء من أحوال ذلك العصر كان يهيئ للدعوات السياسية والدينية. وسنرى أن تنبؤ أبي الطيب ليس بالأمر الأد في ذلك الزمن الذي يعج بالأحزاب والنحل وأهل الأهواء
كان الدين أروج التجارات حينئذ في جميع الأقطار الإسلامية؛ فمن بغى ملكا تذرع له بالدين، ومن أراد ثورة جعل شعارها الدين، ومن دعا إلى نحلة فإنما سلاحه هذا الوتر الحساس من النفوس؛ ودولة بني العباس إذ ذاك منكمشة في رقعة صغيرة في العراق، تعيش مع ذلك خاضعة لسلطان الأمراء المتغلبين من الفرس أو الديلم أو الترك، والانتساب إلى آل بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمضى سلاح يصرفه الخوارج وأرباب الأطماع