يظن فريق من الناس أن الحياة متشابهة الألوان، وإن اختلفت البلاد. وحجة هذا الفريق أن الناس متقاربون أشد التقارب في الغرائز والميول. ويشهد بصحة هذه الحجة أن مذاهب الناس في ملاعبهم وملاهيهم قد تقترب في هذه الأيام مما كانت عليه قبل آلاف السنين. وكذلك تقترب مذاهبهم في فهم الحقائق الأخلاقية والاجتماعية، بحيث يمكن القول بأن حكماء مصر وبابل والهند والصين في العصر القديم عبروا عن آراء وأفكار ليست بعيدة كل البعد عما نعرف في العصر الحديث.
وقد دهشتُ حين زرت مدينة رُوَان في سنة ١٩٢٧ فقد رأيت بعض الأحياء القديمة هناك تشبه بعض الأحياء القديمة في القاهرة من حيث تخطيط الشوارع وهندسة البيوت.
وكذلك دهشت حين زرت بغداد في السنة الماضية، فقد رأيت فيها أحياء تشبه بعض الشبه حيّ الداوودية بالقاهرة، من حيث إقامة الرواشن وزخرفة الأبواب.
والحق أن هناك موجات مدنية تغمر العالم من حين إلى حين فتوحد مذاهبه في العيش بعض التوحيد. ويوضح ذلك ما نراه من طغيان المدنية الأوربية في هذا العصر: فهي تكاد تحوّل العالم إلى شكل واحد في الملابس والعادات والمذاهب المعاشية، وكذلك كان الحال يوم سادت المدنية المصرية والمدنية الرومانية والمدنية العربية.
ولكن تشابه الناس في بعض مناحي التفكير وخضوعهم لطغيان بعض المدنيات لا يمنع من وجود خصائص أصيلة يمتاز بها بلد عن بلد، وشعب عن شعب.
وهل يمكن القول بأن الوحدة السياسية في قطر من الأقطار تفرض أن يتْسم بوحدة اجتماعية؟
إننا نعرف أن أهل مصر يختلفون في كثير من العادات والتقاليد باختلاف المناطق، ولو شئت لقلت أن عندنا مِصرَين: مصر الشمالية، ومصر الجنوبية؛ ولكل ناحية من هاتين الناحيتين خصائص ومميزات تتمثل في أشياء كثيرة منها طرائق التعبير وأساليب الغناء.
ونعرف أيضاً أن فرنسا تنقسم إلى أمم وشعوب بالرغم من وحدتها السياسية، ولكل أمة من تلك الأمم مذاهب في العيش والتعبير، ولها كذلك أذواق خاصة في الطعام والشراب.