لتراث الماضي في عنق الجيل المعاصر مسؤولية قدسية. فإذا انهدم الماضي فإن عودته ضرب من المحال. وإن أعظم الجرائم قسوة أن يهدم الناس ما ورثوه عن أسلافهم من تراث. فما علينا إلا أن نجعل همنا الأكبر الاحتفاظ بالقليل الذي تبقى لنا من تراث الماضي.
ليس في هذه الصرخة من البلاغة والحكمة إلا ما يزكيها من تحليل دقيق وفكر عميق يطفح به هذا الكتاب النفيس الذي قدمنا له في المقال السابق.
ولعل بين القراء طائفة نقرأ في ثنايا هذه الصرخة (رجعية) لا ترضى عنها رغبتهم في بناء المجتمع الجديد على أنقاض الماضي وجموده.
ولكن الحاجة إلى الجذور ليست نزعة عاطفية مبعثها الرجعية والجمود وما يمت إليها من ألوان المحافظة والتزمت. إنما هي غريزة روحية تكمن في نفوسنا جميعا. فحين تستذكر ما يعتري الجيل من بلبلة فكرية وانفعالات نفسية حادة لا يسعك إلا أن توافق المؤلفة على أن رجل العصر إنسان اقتلعت جذوره لأنه قطع الصلة بالذخيرة الروحية التي هي جزء من تراث الماضي ومن أصوله الخالدة.
ففي الثورة على الماضي دعوة إلى القطيعة الروحية بين الخالق والمخلوق، بين الجذور والأغصان. وهذه القطيعة من أين العناصر التي تزيد من بلبلة الفكر وتشتت الجهد وكآبة النفس التي تشيع بين الواعين من أفراد هذا الجيل.
فرجل العصر حين يقتصر في تسلحه لمواجهة مسؤولياته ومشاكله الخاصة والعامة على المعاول الحديثة المستنبطة من فنون السياسة والاقتصاد والإصلاح الاجتماعي خالية من الذخيرة الروحية التي تكمن في تراث الماضي - وحين يتخذ من هذه المعلول وحدها أسلحة يواجه بها تسيار الحوادث وتيارات الفكر وانفعال المشاعر والاحساسات - لا مفر له من أن يفكر بالمجتمع والناس حين يمر بنكسة قاسية أو خلاذن كبير. فهذه المعاول مجردة من الذخيرة الروحية لا تستطيع أن تبعث في رجل العصر الإيحاء والطمأنينية