كلف العرب من قديم بهذا الضرب من التعبيرات الغامضة، وعرفوا قيمته. وكانت تسعدهم على ذلك فطنة ولقانة وسرعة بديهة طبعوا عليها؛ حتى لتؤثر عنهم في هذا الصدد أقاصيص معجبة لا تخلو في نظر المدقق من المبالغة والتهويل - وإن بقى لها كامل دلالتها على تأصل هذا الفن فيهم - كالذي يروى عن العنبري الذي أسر في بكر بن وائل، فسألهم يوماً رسولاً يبعث به إلى قومه فقالوا: لا ترسل إلا بحضرتنا. . . والقصة مشهورة جاء فيها قول الرجل للرسول:(قل لهم - يعني قومه - أن العرفج قد أدبي، وقد شكت النساء، وأمرهم أن يعروا ناقتي الحمراء فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملي الأصهب بآية ما أكلت معهم حيساً، واسألوا الحارث عن خبري. . .) وسأل قومه الحارث بعد أن أعياهم فهم كلامه، فأوقفهم على مرامز رسالته، وأنذرهم قرب وقوع أعدائهم عليهم وغزوهم لديارهم، فاتخذوا للأمر أهبته. . .
ومثل هذه القصة في الأدب الجاهلي كثير. ولقد فتن الرواة بترديد هذا النوع من الملاحن وجمعه والتزيد فيه، وتجدد بظهور الإسلام الغرض الديني - الذي أشرنا إليه - من المعارضة عند التقية، وتجنب الكذب الصراح بإضمار غير الظاهر من القول. واقتحم الأدباء واللغويون باب التصنيف والجمع في ذلك. ومن أشهر ما انتهى إلينا فيه (كتاب الملاحن)، وهو مؤلف لطيف لابن دريد (أبي بكر محمد بن الحسن البصري الأزدي، المتوفي عام ٣٢١هـ) وقد طبع حديثاً في مصر
ويعلن ابن دريد الغرض من تأليف الكتاب في مقدمته فيقول: هذا كتاب ألفناه ليفزغ إليه المجبر المضطهد على اليمين، المكره عليها، فيعارض بما رسمناه، ويضمر خلاف ما يظهر، ليسلم من عادية الظالم ويتخلص من جنف الغاشم؛ وسميناه (الملاحن)، واشتققنا له هذا الاسم من اللغة العربية الفصيحة التي لا يشوبها الكدر ولا يستولي عليها الكلف. . . الخ
وقد سجل لنا ابن دريد جمهرة من ألفاظ اللغة التي تصلح للتعمية والمعارضة في الكلام.