(فصل مستل من الجزء الأول من سلسلة (بناة العلم في الحجاز الحديث). وهو الكتاب الذي يمثل مبادئ اليقظة العلمية الحديثة لمهد العروبة والإسلام، في العصر الحديث، بأسلوب يجمع بين متعة الفن القصصي وعمق البحث العلمي، لمؤلفه الأستاذ عبد القدوس الأنصاري صاحب مجلة (المنهل) بمكة ورئيس تحريرها. والكتاب تحت الطبع.
عهد جديد:
كان الفتى قد بلغ الخامسة عشرة من عمره. وكانت الأحلام المعسولة تتراقص أمامه كما تتراقص مياه الغدير الصافي للظمآن في الفيافي الجرداء. وكانت الحياة في نظره رؤى وأحلاماً فيها الكثير من الغموض والإظلام. وقد كسبته الحوادث والأحداث الجسام التي مرت عليه قطعانها وهو ناعم الأظفار، مرونة محدودة ودقة نظر غير بعيدة الأهداف في الحياة والأحياء. . . وكان الفتى خجولا منطويا على نفسه محباً للعزلة أنى وجد إليها سبيلاً.
وكان لا يبتسم لشيء بقدر ما يبتسم للدرس والكتاب، وما يستتبعانه من حفظ ومطالعة وتكرار.
وكأن انطوائيته فتحت له آفاق الدأب على تحصيل ما يرسم له من علوم. فكانت متعته وهجيراه أن يتخيل نفسه وقد بز الأقران، وصار علماً في العلم والأدب العربي يشار إليه بالبنان.
وكانت لديه مع ذلك نفس مكبوتة نزاعة إلى الإلمام بهذه الفنون العصرية التي بدأت تستهويه نغماتها القادمة من آفاق مصر والشام؛ كما استهوت نغمات (سلامة) ابن أبي عمار المشهور بالقس لعبادته وتقواه. ولكنه في حالته الراهنة، وهو الطالب بالمسجد النبوي، لا يكاد يشعر بوجود أية فجوة ينسل من خلالها إلى ذلك الروض الذي يتخيله أنيقاً كل الأناقة، والذي يحن إلى الاستظلال بافيائه كل الحنين.