أريد أن أعالج موضوع الأدب من الوجهة الاقتصادية، لأن كثيراً من الأدباء يمنعهم الحياء من التبسيط في شرح ذلك، مع أن هذا الموضوع جدير بالبحث والنظر، لأن هناك صلة تصل المؤلف بالقراء، فالمؤلف لا يكتب إلا لقرائه، سواء في الجيل الحاضر أو في الأجيال الآتية، ولم يخلق بعد المؤلف الذي يكتب لنفسه. وإذا رجعنا بالبصر قليلاً وجدنا أن كثيراً من أمهات الكتب القديمة التي ننعم بها لم يكتبها مؤلفوها إلا تحت رعاية عظيم أو تشجيع كبير، مما لا نتبسط في شرحه وبيانه، غير أن هذه الكتب لم تكن فتحاً في الأدب.
فالأدب الصحيح الذي يصور الحياة في صورها الصادقة لا يولد في كنف عظيم أو رعاية كبير، لأنه إذ ذاك لا يصدر عن نفس حرة طليقة من قيود المادة، لذلك لم تولد أمهات الكتب في الأدب الحديث إلا مع وجود القراء، وإذا أردت دليلاً على ذلك فإن لويس الرابع عشر أغدق المال على رجال العلوم والفنون إغداقاً ليس له نظير ولا ضريب، ثم لم ينبغ في عصره كاتب ولا فنان، لأن يد الإحسان كانت تعقل أفواههم، فلا يقولون إلا ما يرضيه، ولا يعملون إلا ما يحسن لديه ويجمل في ناظريه، ولم أجد كاتباً فصل ذلك في وضوح وجلاء إلا (بكل) كتابه الممتع تاريخ الحضارة في إنجلترا.
والكاتب مهما قنع بالقليل يجب أن يعيش قبل كل شيء، فإذا كانت رعاية الكبراء تحول دون الإنتاج البكر في الأدب، بله عدمها
الآن، فليس هناك وسيلة للأدب والأديب غير القراء. ولذلك نتساءل: هل يوجد الآن بيننا جيل القراء الذين يقبلون على قراءة
الكتب القيمة فيساهموا في أحياء الأدب؟. أم نحن نعيش في عصر لم يخلق فيه القراء بعد؟ ولا يمكننا أن نعلل ذلك بفقر القراء، أو غلاء الكتب، لأن ثمن أكبر كتاب لأشهر مؤلف لا يتجاوز ثمن تذكرة من تذاكر دور السينما.
وإذا قال مكابر بأننا تعيش في ذلك العصر فأننا نطالبه بالدليل على ذلك، أين هي الكتب التي طبعت مراراً؟ لا أعلم كتاباً طبع للمرة العاشرة، بله الثالثة أو الرابعة، وتكرار الطبع دليل على رواج الكتب وانتشار الأدب. إذن ففي أي عصر نعيش؟ أنعيش في ذلك العصر