شاع في الفيحاء ما بين سمار الأندية ورواد المجالس، أن الفتى الشاغوري نابغة بني أقبيق قد أقصاه شيوخه عن دروس المسجد الأموي، وطرده والده من داره لنزعته الموسيقية والتمثيلية لئلا تكون هذه الأسرة المرموقة المنظور إليها في حي الشاغور المحافظ على تقاليده وعاداته غرضاً للنقد والغميزة الممضة.
وانتشر ذلك كسرعة البرق بين رواد الحلقات، فأسف على حرمانه من الدرس أناس وفرح آخرون، أسف الذين كانوا يرقبون له مستقبلاً لامعاً من انصرافه إلى العلم، وفرح الذين كانوا ينفسون عليه نبوغه، ويعدون وجوده بينهم حائلاً دون ظهورهم، وكان من أشد الناس أسفاً على حاله، خاله أبو سعد النشواتي. فأدناه من مجالسه، وكفل معيشته، وجعله وكيلاً عنه في قاعة النشا، ولما ارتاش وانتعشت حالته المادية عند خاله بدا له أن يستقل في عمله، فاشترى من وفره (قباناً) واستأجر محلاً في سوق البذورية وهو من أشهر أسواق دمشق التجارية، وجعل يتكسب من هذه الصناعة، وأمسى يكنى بالقباني، فتغلبت هذه الكنية، فيما بعد على أسرته وغدا يطلق عليها أسرة القباني، وكان خاله يعتقد أن إزالة صخرة كبيرة من مكانها أهون عليه من إزالة هذه التحيزة المتأصلة في نفس هذا الفتى النابغ العجيب. ومما جعله يعطف عليه هذا العطف كله أن أبصره أكثر من مرة يجمع حوله في مقام الحسين في القسم الخارجي من الأموي جماعة المؤذنين والمذكرين، وأبطال المراسلات في آذان الفجر وفي الأسحار في ليالي رمضان، فيعلمهم الأذان والمراسلات من نغمة الصبا، والحجاز، والجهاركاه، والسيكا، وكانوا لا يعرفون سوى نغمتي الراست والبياتي، وكان ذلك وهو في الثانية عشر من سنى حياته، وكان صوته على مأذنة عيسى القائمة في جانب من جوانب المسجد الأموي يفتن السامعين وقت السحر وهو في هذه السن ويجعلهم في حيرة من أمره وذهول. والى هذه المواهب التي لا ينضب معينها، نراه منصرفاً إلى العلم والتجارة والكسب، حيث لا تمر عليه ساعة من نهار دون أن يفيد منها.
وكثيراً ما كان يرى في أوقات الفراغ ممسكاً بيده مطرقة من حديد يطرق بها جانب قبانه