للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[دراسات إسلامية]

الزندقة في الإسلام

للأستاذ عبد الرحمن بدوي

للزندقة في الإسلام تاريخ شائق، عنى المستشرقون بدراسته عناية شديدة، فكتبوا فيه الرسائل القصيرة أو المقالات الطويلة المستفيضة التي تظهر باستمرار وأغلب ما فيها جديد طريف. ولكنهم لم يبلغوا من هذا كله شأواً بعيداً، ولم يستطيعوا حتى اليوم أن يلقوا ضوءاً قوياً ساطعاً على أغلب نواحيه

عنوا بدراسة هذا التاريخ لأنه بدون إيضاحه وتعمقه لن نستطيع أن نفهم كيف نشأت بعض النظريات في علم الكلام بل بعض المذاهب الكلامية التي ازدهرت خصوصاً في القرنين الثاني والثالث للهجرة، إذ أن الكثير من نظريات مذهب كمذهب المعتزلة لا يمكن أن يفهم بدون معرفة هذه الخصومات الكثيرة العنيفة التي كانت تقوم بين كبار المعتزلة وبين الزنادقة، والتي كان يثيرها هؤلاء الأخيرون فيضطر أصحاب الاعتزال إلى أن يتخذوا موقفاً بازائها خاصاً. حتى أنه لو أتيح لنا أن نبحث في تكوين النظريات المختلفة التي يشتمل عليها مذهب المعتزلة بحثاً دقيقاً، يتابع تطوره ويرسم المنحنى الذي عليه سار، إذن لوجدنا للزندقة أكبر الأثر وأعظم الخطر في هذا التكوين

كما لا نستطيع أن نفهم أيضاً تلك الحركة السياسة الحضارية الخطيرة التي ظهرت خصوصاً في أوائل حكم العباسيين، وأعني بها حركة الشعوبية. ودون أن نذهب إلى ما ذهب إليه الدكتور طه حسين في كتاب (حديث الأربعاء) من إرجاع حركة الزندقة كلها أو معظمها إلى حركة الشعوبية، نستطيع أن نؤكد على أقل تقدير أن بين كلتا الحركتين صلة قوية شديدة، حتى كان بعض أنصار العربية ضد الشعوبية يتخذون من الشعوبية وسيلة للدلالة على الزندقة كما سنرى بعد حين

وإلى جانب هذا كله لا يمكن أن ندرك التطور الروحي في بلاد الإسلام والحياة العقلية عامة على حقيقتهما، إلا إذا نظرنا إلى حركة الزندقة باعتبارها عاملاً من أخطر العوامل التي لعبت دورها في ذلك التطور وهذه الحياة، فسيرت الأول في اتجاه معين وحددت له خطوطاً رئيسية مشى فيها؛ وكيّفت الثانية تكييفاً معيناً وصبغتها بصبغة خاصة لم تبهت

<<  <  ج:
ص:  >  >>