كان للوحي قبل الهجرة اتجاه، وكان له بعد الهجرة اتجاه آخر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يساير الوحي في هذين الاتجاهين، ويحتفظ بما يؤدي إلى الغاية منهما.
كان الوحي يدور أولاً حول تحديد الدعوة، وبيان الغرض منها، ولفت الأنظار إلى أدلتها، وذكر ما ينفع فيها من قصص الأولين وعبر الماضين، وتسلية الرسول وغرس عوامل القوة الروحية في نفسه، وتعويده عدم الاكتراث بما يجابه به من الإيذاء والتكذيب والاضطهاد. وقد أتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الناحية في تفكيره وأعماله وأقواله وسائر تصرفاته، يبلغ الدعوة، ويعالج الصبر على الإيذاء في سبيلها، ويحاول جمع القلوب حولها، ويرسم للناس دائرتها، ويركز أصولها في النفوس، ويعمل على إيجاد بيئة إسلامية صالحة لما يرد عليها فيما بعد من مبادئ التشريع.
فلما تمت الهجرة دخلت الدعوة في عهد جديد تكونت به للمسلمين وحدة اقتضت معاملات ونظماً اجتماعية تمتاز بها عن سائر الجماعات.
ومنذ ذلك الحين أتجه الوحي إلى جهة أخرى تسير مع مقتضيات الحالة الجديدة وتلبي مطالب هذه الأمة الناشئة، واتجه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاتجاه نفسه فأضيف بذلك إلى وظيفته في التبليغ وظائف أخرى، فكان إماماً للمسلمين يسوسهم ويرعى دولتهم وينظم شئونهم؛ وكان مفتياً يجيبهم عما يسألون، ويعلمهم ما يجهلون؛ وكان قاضياً يفصل في خصوماتهم، ويقضي بينهم، معتمداً على ما يظهر به الحق من البينات والأدلة.
وقد صدرت عنه صلى الله عليه وسلم في جو هذه الحياة الجديدة أقوال وأفعال وتصرفات مختلفة عني بها المسلمون عناية فائقة هي مضرب الأمثال في عناية الأمم بتاريخ عظمائها وتتبع آثارهم، دونوها وشرحوها وضبطوا ألفاظها وألفوا المعاجم في شرح غريبها، واهتموا بتفهم أسرارها، وتبين أغراضها حتى كان من آثار ذلك أن نشأت علوم خاصة تعرف (بعلوم السنة) من رواية ودراية وتجريح وتعديل وناسخ ومنسوخ وغير ذلك.
يهم الناظر في التشريع الإسلامي أن يعرف: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يروى عنه من هذه الأقوال وتلك الأفعال والتصرفات مُصدراً عن الوحي، ناطقاً بلسانه، أو