أيهما خير ياآنسة؛ أن نفترق الآن لنلتقي غدا، أم أن نظل كما نحن رفيقين في السفر والإقامة؟ قالت: بل أن نفترق لنلتقي بعد شهرين في القاهرة أو بعد شهر في باريس. وحسبنا أن قد أقمنا معاً أسبوعاً كاملا في هذه المدينة من مدن البحر نلتقي إذا أصبحنا، ونلتقي إذا أمسينا ولا يفرق بيننا إلا الليل، قال: فإنك إذا قد سئمت هذا اللقاء وطال عليك أمده، وأخذت تودين لو فرقت بيننا النوى دهرا طويلا أو قصيرا! وما رأيك في أني بعيد كل البعد عن هذا السأم، كاره كل الكره لهذا الفراق الذي تحبينه وتطمحين إليه؟ قالت: لك أن تفهم رأيي كما أحببت وأن تقدره كما شئت، وأن ترضى عنه أو تسخط عليه، فمن المحقق أني لم أره لك وإنما رأيته لنفسي، ومن المحقق أني لم أعلنه إليك إلا وأنا محتملة لنتائجه عالمة بموقعه من نفسك وتأثيره فيها، ولن يغير من رأيي ما تبدى وما تعيد، فقل لي: إلى اللقاء ودعني أهيئ أمري فقد دنت ساعة السفر، قال: ما شككت في أن ساعة السفر قد دنت، ولكن الذي أشك فيه هو أن دنو هذه الساعة يضطرنا إلى أن نفترق، فقد نستطيع أن نسافر معا كما أقمنا معا. قالت: فإني لا أريد. قال: ما رأيت كاليوم ظرفا ولا رفقا ولا حسن مودة للأصدقاء، سنفترق يا آنسة ما دمت حريصة على هذا الفراق فهل تأذنين في أن أصحبك إلى القطار. قالت: ولا هذا فإني لا أحب هذا الوداع السريع البطيء في وقت واحد. ولا أحب أن يفترق الناس لأن قوة غريبة عنهم تكرههم على أن يفترقوا فلنفترق منذ الآن واكتب إلي، ولعلنا نستطيع أن نلتقي في باريس. فان أعيانا ذلك ففي القاهرة متسع للقاء المتصل والحديث الطويل. ثم صافحته في قوة وعلى وجهها ابتسام يشبه العبوس، وفي وجهه عبوس يشبه الابتسام.
ولم يكد يقبل المساء حتى كانت ماضية في قراءتها لا يصرفها عنها شيء، كما كان قطارها السريع ماضيا في سيره لا يقفه عنه شيء وكانت حركة الناس من حولها لا تسكن، وحديث الناس من حولها لا ينقطع، وأصوات الناس من حولها لا تهدأ. ولكن شيئا من ذلك لم يكن ليلهيها عن هذا الكتاب الذي غرقت فيه. حتى إذا انتهت بها القراءة إلى شيء من الجهد والإعياء، ووضعت كتابها لتستريح ورفعت رأسها تجيل الطرف فيما حولها لم يرعها إلا