للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[وتقديم الساعة مرة أخرى]

للأستاذ عباس محمود العقاد

يقول الراوي: سمعت فيما سمعت من فكاهات الناس أن غريباً نزل ببلد من البلدان يتفرج بالسياحة ويحتال للرزق، فلم ينفرج ضيقه، ولم يتسع في طلب الرزق طريقه؛ فخرج يوماً إلى مدافن البلد يتعظ ويستعبر، ومال على القبور يقرأ ما كتب عليها، فأذهله ما قرأ وعى بتفسيره وتأويله

هنا قبر كتبوا عليه أنه قبر الوزير العظيم فلان: حكم وعدل وأصلح وبلغ من العمر عشرة أيام

وهنا قبر كتبوا عليه أنه للقاضي الجليل فلان: كانت له أحكام يؤتم بها في مجالس القضاء، وأثرت عنه مؤلفات يتداولها الطلاب والأدباء، ومات ولم يجاوز من العمر أسبوعين

وهناك قبر لطبيب، وإلى جانبه قبر لأديب، ووراءهما قبر لسرى حسيب، وعلى مقربة منه قبر لناشئ نجيب، وما منهم معمر ولا مغتضر يجاوز الساعات والأيام، إلى الشهور والأعوام، ولا منهم إلا من تذكر له المآثر ويرتفع به المقام

فأستغرب الغريب، وسعى إلى الحارس يسأله في هذا الكلام المريب: ما خطبكم يا هذا؟. . . أحياؤكم في المدينة يشيبون ويعمرون، وأمواتكم في المقابر لا تعدّ لهم شهور ولا سنون. فهل يجاء بالأموات من بلد غير هذا البلد، أو تعدون العمر عندكم بغير ما ألف الناس من عدد؟

قال الحارس: بل هي مدافن القوم، وهي أعمار أبناء آدم، ولكنهم يسقطون منها مالا يسر ولا يؤثر، ويثبتون منها ما قضى في سرور وعمل مشكور. فمن ثم تنحسر السنوات بعد السنوات، فلا يبقى غير لحظات ولمحات، وهي التي تراها، وتحار في معناها!

قال الغريب: إن كان هذا فوصيتي لك أن تكتب على قبري حين يتوفاني الله في بلدكم: من بطن أمه إلى القبر!

ويقول الراوي مرة أخرى: ثم أدركتني سنة من النوم وأنا أعيد حكاية هذا الغريب اليائس وأسل نفسي: كم من الناس يحق له أن يزيد على ما أوصى؟ وكم من الأعمار يبلغ الساعات على هذا الحساب؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>