تبدأ العلوم والفنون الإنسانية كلاًّ مختلطاً كالسديم، فإذا ما ارتقت وتطورت تبينت أجزاؤها وانفصلت، ووضحت أشكالها وتميزت، وتعددت مناحي كل علم وفن، وتوفر بعض ممارسي تلك العلوم أو الفنون على ناحية من نواحي العلم أو فرع من فروع الفن وتوفر غيرهم، كلٌّ يتبع ما هو أقرب إلى طبعه وأوفق لعبقريته وأتمُّ تعبيراً عن منازعه؛ وكلما ارتقى العلم أو الفن جدت فيه ضروب وأشكال لم تكن من قبل، وتولدت من الأشكال القديمة أخرى غيرها
وذلك شأن الأدب: يبدأ بانفصال الشعر عن الموسيقى، فإذا هو ألحان وأهازيج ساذجة المعاني؛ ثم ما يزال جانب المعنى منه يقوى حتى يطغى على جانب النغم، حتى يبلغ الشعر أشده وما تزال الآمة متبدية؛ فإذا ما نالت حظاً من الحضارة والثقافة ظهر النثر بجانب النظم، حاوياً لكثير من مميزات الشعر الفنية: كالتعبير عن الوجدان وحسن الاختيار الألفاظ المعبرة، فإذا ما استمر الأدب في رقيه تعددت أشكال النظم والنثر واختلفت صورهما، واجتذب كل شكل فريقاً من الأدباء يصطفونه دون غيره أو بجانب غيره، لإخراج أفكارهم وأحاسيسهم في قالبه، وإبراز نظرتهم إلى الحياة في أوضاعه وحدوده
فتعدد أشكال الأدب من دلائل رقيه وابتعاده عن عهود الابتداء وعصور الإبهام والعموم، وهو أيضاً من دلائل سريان روح التجديد فيه: فمن طبيعة النفس الإنسانية أن تسأم النغمة الواحدة إذا كررت، مهما كانت عذوبتها أو براعة صاحبها، وتستوي في ذلك الموسيقى وغيرها من الفنون، فإذا ما سئم جيل شكلا من أشكال الأدب، أو أصبح ذلك الشكل الأدبي غير ملائم لعصره، فأن روح التجديد - إذا كانت هناك - تدفعه إلى ابتكار شكل طريف ملائم، وهجر الأشكال القديمة مهما كانت منزلة الأدباء المتقدمين الذين مارسوا تلك الأشكال، ومهما يكونوا قد أودعوها من صادق الأفكار والشعور، ومحكم الصور لعصرهم
وقد شهد الأدب الإنجليزي عصر اليزابيث، وهو ما يزال مختلط الأجزاء، مضطرب الصور، لم تتميز أشكال منظومه ومنثوره، بل لم تستقم بعد أساليبه الشعرية ولا لغته