الصوم تعليم ديني فرضته جميع الشرائع السماوية، وسنته مختلف الأديان الأخرى. وجعلت من أدائه طاعة لله وتقرباً منه، ومن مخالفته خروجاً على أوامره. ويعتبر الدين الهندوكي من بين تلك الأديان التي تشرع الصوم في أوقات محدودة، وتلزم الهندوكيين بقضائها تزلفاً لله. وكن الشعب الهندوكي العريق في الروحية لم يكتف بصيام الأيام التي يفرضها الدين، ويقدم طواعية قربان صومه لله كلما نزلت به محنة، أو أشقته مصيبة، أو كلما ارتكب آثاماً يود التفكير عنها. وكانت أم غاندي من أولاء الهندوكيات الورعات المتقشفات التي لا تهمل صيامها الديني، فضلاً عن أنها كانت تنذر في مناسبات مختلفة أن لا تأكل إلا إذا رأت الشمس. ويحدث أن تمضي الأيام تباعاً دون أن تأكل شيئاً لأنها لم تستطع رؤية الشمس خلف سحب الهند الكثيفة. فتعود غاندي منذ صغره أن يرى أمه تصوم صوماً طويلاً شاقاً، ترك في مخيلته أثراً مطبوعاً ظهر مفعوله في حياته العامة.
فابتدأت نزعة غاندي الروحية تتربى في أحضان تلك الأم التقية الصالحة التي تتمسك بفروض دينها. ثم أخذت تنمو حينما تلقن أول مبادئ الديانة الهندوكية، ولمس من مواطنيه تعلقهم بها، ووجدهم شعباً يؤمن بدين يحرم أكل اللحوم، وينبذ لذيذ الطعام، ويعيش على النبات، ويشتهر بالزهد والتقشف. فشب غاندي نباتياً لا تثيره شهوة الأكلن ولا يغريه فاخر المأكولات، ويحترم تقاليد دينه. فغرست حياته الأولى مع أمه، ثم نشأته في ربوع شعب ديني، المبادئ الروحية في نفسه. وأصبح فكره ينزع دائماً إلى الناحية الدينية والروحية، ويغلب الحقائق الدينية على أي حقيقة تخالفها. وظهر كل ذلك واضحاً حينما خاض معترك الحياة الاجتماعية، فكان يحاول أن يحل كل ما يقابله من مشاكل بالطرق الدينية. وكان الصوم أول هذه الطرق.
كان غاندي في أول الأمر يصوم صيامه الديني، أو يزيد عليه أياما معدودة، كلما طرأت مناسبة شخصية تدفعه لذلك. ولكن حينما أخذ نفوذه يقوى في جنوب أفريقية، وأصبح له أتباع مسئول عن سلوكهم وتصرفاتهم؛ حتى إذا ما صدر عنهم أي فعل يخالف تعاليم الدين، أو يتعارض مع أصول الأخلاق، أو يغاير ما ينادي به من مبادئ سياسية، حق عليه أن