لم تكن حرية الرأي في أوائل الدولة العباسية مكفولة في كل النواحي الفكرية كما كانت الحال في الدولة الأموية؛ فلم يكن الأمويون يعاقبون، إلا فيما ندر، رجلا بالقتل أو غيره لأنه يرى رأيا يخالف آراءهم في الحكومة أو السياسة أو الدين أو الاجتماع ما دام لا يحاول الانتقاض على الحكومة أو يخل إخلالا عمليا بنظام من نظم الدولة. لم يكن الأمويون يفعلون ذلك إلا نادرا، وإلا فإن عصرهم بل عصر الإمام علي لم يخل من مؤاخذة بعض المخالفين في الرأي واضطهادهم وعقابهم بالقتل أحياناً.
لكن موقف الأمويين من المخالفين وإن شابه إلى حد بعيد موقف العباسيين من مخالفيهم، لا يشابهه إلا في الظاهر، ولكنه يختلف عنه في الحقيقة كل الاختلاف من حيث المبدأ والتنفيذ كما سنبين ذلك في مكانه من هذا البحث.
ولقد حاول العباسيون منذ قامت دولتهم وفي أول قيامها خاصة أن يضعوا للفكر حدودا في بعض النواحي التي يتناولها، ومنعوه من أن يتعداها، وإلا عرض صاحبه للعقاب، كما حاولوا بالترغيب والترهيب أن يصبغوا العلوم على اختلاف أنواعها صبغة خاصة، فنجحوا في بعض محاولاتهم وخابوا في بعض، ونصروا بعض المذاهب الفكرية وحاربوا البعض الآخر مما يوقع الباحث في هذا العصر في كثير من الحيرة والاضطراب.
ورأى مؤسسو الدولة العباسية أنفسهم مكرهين على التزام هذا التدخل بين المذاهب، والحجر على الناس في كثير مما يقولون ويعملون مما لم يكن له نظير قبلهم، ومرجع ذلك إلى أن الدولة الأموية التي قامت دولتهم على أنقاضها ظلت قرابة قرن من الزمان (٤٠ - ١٣٢هـ) مسيطرة على العالم الإسلامي فتغلغل سلطانها في جوانبه وألف الناس منها قواعد ونظما خاصة في الحكومة والسياسة والاجتماع وغير ذلك فحاولوا أن يستأصلوا من العالم الإسلامي الذي اعتصبوه كل ما بذر فيه الأمويون من قواعد ونظم، ويستبدلوا بها قواعد ونظما خاصة بدولتهم تحفظ عليها هذا الملك المترامي الأطراف الذي استحوذت عليه بالقوة حينا والدهاء حينا، وكان خلفاؤها - والأولون منهم خاصة - يعرفون أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إلا بعد أن خاضوا إليه أنهارا من الدماء، وعبروا له على جسور من