لو بعث أعرابي في الجاهلية وقرأ ما تفيض به أقلام الكتاب في هذا العصر لأعجزه فهم المعاني والمرامي، بل لأعجزه فهم التراكيب والأساليب، ولخرج من مطالعته وكأنه لم يقرأ ولم يفقه شيئاً. ذلك لأننا نكتب بلغة الغرب وندرك الأشياء بعقول هي أقرب ما نكون إلى عقول الغربيين، ونستمد منهم العلم ونستوحيه، ونرتوي من مناهلهم ونعترف، ولا يزال العالم العربي كله يترسم خطاهم ويلف لفهم، ويعاونه على ذلك مرونة اللغة، فهي تتسع لمختلف الأساليب وشتى التراكيب، ولا تنقصها الإبانة عن معاني الغرب كما أبانت عن معاني الشرق.
وهذا التطور الناشئ من طغيان أدب الغرب على اللغة قد ثقلت موازينه على التطورات الطبيعية التي تصيب اللغات من توالي الأجيال وما يلابسها من اختلافات في عالم الفكر وأساليب الحكم وصعود في المشاعر الإنسانية وهبوط. وما الأدب الرفيع إلا دعامة من مقومات الأمة، ومظهر من مظاهر حياتها ونزعاتها؛ بل ترجمان نهضتها يكشف عن أسرارها ويظهر ما كمن في نفسيتها وما استتر. فلما تهيأت أسبابه إبان النهضة المصرية الحديثة في عهد الخديو إسماعيل لم يكن بين المصريين من يعرف الصحافة أو يستسيغها، فنشطت جماعة من أدباء سوريا وممن كان الاستبداد التركي قد أرغمهم على الهجرة إلى أرض الفراعنة - إلى غرس بذور الأدب، فرحب بهم إسماعيل باشا وشجعهم على إصدار الصحف والمجلات وإنشاء فرق التمثيل وقرض الشعر وتأليف الكتب الأدبية. واتصلت مصر بسوريا اتصالاً أدبياً وثيقاً، ولسنا نقول إنهم أجادوا فيما أخرجوه للناس بادئ ذي بدء، ولكن معظم تلك الأقلام على اختلاف ألوانها لا يروقك منها اليوم إلا النذر اليسير. ولم ينزل المصريون إلى هذا الميدان إلا بعد فترة من الزمان. وكان الأزهر الشريف يومئذ يغط في الجمود غطيطاً حتى جاءه جمال الدين فأحيا مواته ونفخ فيه من روحه، وغادر مصر بعد قليل وقد أسلم راية النهضة إلى الأستاذ الإمام العظيم الشيخ محمد عبده، فعمل مع من التف حوله من تلاميذه الأخيار على إعلاء كلمة الأدب، وأرسل من صحن الأزهر