كما قرأت أن الحكومة تجرب أسباب الوقاية المدنية من الغارات الجوية، أو رأيت خندقاً محفوراً وعلى جانبيه أكياس الرمل، أو سمعت صفارة تنطلق بالإنذار والدعوة إلى الاختباء وإطفاء الأنوار، أراني أتساءل:(أترى سيعود الإنسان إلى حياة الكهوف والغيران؟) ولست أعني الكهوف بالمعنى الحرفي، وإنما أعني الحياة في جوف الأرض. وماذا يكون مصير الإنسان يا ترى إذا دفعه الترقي في القدرة على التخريب إلى باطن الأرض؟!
وتذكرت هـ. ج. ولز وكتابه (آلة الزمان) وهي آلة يتصور الكاتب أن صانعها يذهب بها مطوفاً في الزمن (في الماضي أو المستقبل كما يشاء) كما نذهب الآن شرقاً أو غرباً وشمالاً أو جنوباً - ويقول ولز إن رحالته بعد أن قطع مرحلة كافية من الزمن الآتي، ألفى الإنسان قد صار إنسانيين - واحداً يعيش في جوف الأرض وواحداً بقي فوقها. فأما الذي دخل فيها، وألف الحياة في السراديب والظلام، فقد ارتد إلى الحيوانية في مظهره وطباعه وعاداته، فهو يمشي على أربع، وبدنه يكسوه الشعر، وعينه واسعة ترى في الظلام ويُعشيها النور، وتفزعها النار. ولهذا الإنسان السفلي صناعاته وآلاتها، وهو يستدرج إلى سراديبه أبناء العالم العلوي ويفتك بهم، ويأكل لحمهم. وأما الذي بقي فوق ظهرها فهذا من سلالة المترفين الأغنياء، وقد انحط وضعف وتشابه ذكوره وإناثه، في اللين وصغر الجسم، وفَقَدَ القدرة على العمل والاحتيال والسعي، وصار معوله في حياته على العالم السفلي، وخوفه منه، لفرط ما انتابه من الانحطاط والطراوة.
ويقول ولز إن بداية هذا الانقسام ظهرت في زماننا، وإن الإنسان شرع ينحدر إلى باطن الأرض. فبُنانا ومصانعنا لها طبقات تحت الأرض، وفي عواصمنا تجري القطر في سراديب إلى آخر ذلك.
وقد كنت وأنا أقرأ كتاب ولز هذا قبل حوالي عشرين عاماً، ثم وأنا أنقله إلى العربية منذ عامين أو نحو ذلك، أقول لنفسي إن ولز مبالغ، وإن الدخول في جوف الأرض لا يستدعي أن يصبح الإنسان إنسانيين متميزين على نحو ما يصف، وإن الناس يختلفون ويتفاوتون ولكن تفاوتهم لن يبلغ من أمره أن يصير بهم إلى مثل هذا المصير المرعب الذي يصوره