(حياتي) هي حياة صديقي الدكتور احمد امين بك، ألفتها الوراثة والبيئة والظروف والمواهب والأخلاق والجهود في مدى أربع وستين سنة، فجاءت فصلا متميزاً من كتاب الحياة العام. وقليل من الناس من يتهيأ بفطرته وعبقريته ليكون مادة من مواد هذا الكتاب. أما الاكثرون فأكثرهم ينكرهم المؤلف الأعظم إنكاره للمعدوم، واقلهم يذكرهم إما لحقا في حاشية وإما عرضا على هامش.
هذا الفصل الطويل الحفيل لخصه أحمد أمين بقلمه فجاء قصه من قصص البطولة النفسية في ثلثمائة وخمسين صفحه من الحجم اللطيف، تقرأها وأنت ترجو ألا تشغل عنها، وتفرغ لها وأنت ترجو ألا تفرغ منها!
قرأتها في جلستين اثنتين على كلال بصري ووهن أعصابي، فكنت كأنني أشهد بخيالي وذهني فلما ثقافيا عجيب المناظر مختلف الألوان جم الصور يمتع العقل والقلب جميعا.
كان ما أجده من الشوق واللذة وأنا أقرأ (حياتي) لأحمد أمين، يشبه ما كنت أجده من الشوق واللذة وأنا أقرأ (الأيام) لطه حسين: شوق ولذة من نوع غريب الطعم والاثر لم أذقهما في حياتي الادبية قبل هاتين المرتين في هذين الكتابين. وليس معنى ذلك أن (حياتي) و (الأيام) يشتركان في مذهب فني واحد، بل معناه انهما يشتركان في أجتذاب النفوس وامتلاك المشاعر بشيء اخر غير الفن. قد يكون ذلك الشيء في الجمال النفسي الذي يتجلى في الصدق حين يجوز الكذب، وفي الصراحة حيث تنقذ الكتابة، وفي التفصيل حيث يسهل الاجمال.
وقد يكون في الروح القوى الذي يهيمن على الكتابين، فيظهر هناك في عمق الشعور، كما يظهر هنا في عمق الفكر وقد يكون في التصوير الدقيق البارع لتربية روحية مسخها المادة، وبيئة شعبية نسخها المدنية، ولا يزال لهما في النفوس أثر وفي بالقلوب نوطة.
وقد يكون في أولئك كله، إلا الصفات الجوهرية التي لابد منها للمكتوب الصحيح وللكاتب الحق
عبر صادقا عن نفسك تتجاوب أنت والناس، وأنقل أمينا عن بيئتك تتعارف أنت والطبيعة.
قال لي صديقي ذات يوم ونحن جالسان في المجمع. سأبعث إليك بأول نسخة تخرجها المطبعة من كتابي، وسأمضي فيه على رأيك ولو كلفني ذلك تفريق ما جمع وتمزيق ما