طبع، فأني ضعيف الثقة بما أعمل. فلما مضيت في الكتاب تبين لي أن ضعف الثقة في الصديق لم يأته من اشتباه الحق ولا من التباس الصواب، وإنما أتاه من اتساع المسافة في نفسه بين ما يريد وبين ما يستطيع، ومن شدة الاختلاف في رأيه بين ما يجب وبين ما يكون.
ولقد كان صديقي في هذا الكتاب بالذات شديد التردد في كتابته، كثير التشكك في افادتة، فهو يقول في المقدمة:(لم أتهيب شيئا من تأليف كما تهيبت في أخراج هذا الكتاب؛ فإن كل ما أخرجته كان غيري المعروض وأنا العارض، أو غيري الموصوف وأنا الواصف. أما في هذا الكتاب فأنا العارض والمعروض والواصف والموصوف. والعين لا ترى نفسها ألا بمراّة. والشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته. والنفس لا ترى نفسها إلا من قول عدو أو صديق، أو بمحاولة التجريد وتوزيعها على شخصيتين: ناظرة ومنظورة، وحاكمة ومحكومة، وما اشق ذلك وأضناه!). . . (وترددت أيضا في نشره: ما للناس و (حياتي)؟ لست بالسياسي العظيم، ولا ذي المنصب الخطير، الذي إذا نشر مذكراته، أو ترجم لحياته، أبان عن غوامض لم تعرف، ومخباّت لم تظهر، فجلى الحق وأكمل التاريخ؛ ولا أنا بالمغامر الذي استكشف مجهولا من حقائق العلم فحاول وصفة وأضاف ثروة إلى العلم، أو مجهولا من العواطف كالحب والبطولة أو نحوهما فجلاها وزاد بعمله في ثروة الادب وتاريخ الفن، ولا أنا بالزعيم المصلح المجاهد، ناضل وحارب، وانتصر وانهزم، وقاوم الكبراء والامراء، أو الشعوب والجماهير، فرضوا عنه أحيانا، وغضبوا علية أحيانا، وسعد وشقي، وعذب واكرم، فهو يروي أحداثه لتكون عبرة , وينشر مذكراته لتكون درسا. لست بشيء من ذلك ولا قريب من ذلك، ففيم أنشر حياتي؟)
ومع ذلك استطاع أحمد أمين بوزانة عقلة ورزانة خلقه أن يقول لحق أصرح ما يقال، وأن يصدر الحكم أعدل ما يصدر: كما استطاع بقوة شعوره وقوة تصويره أن يحقق الفائدة للقارىء، فجعل من تاريخ حياتة تاريخ حياة لمصر في الربع الاخير من القرن الماضي، والنصف الأول من القرن الحاضر، فوصف عادات كادت تزول، وسجل حوادث كادت تنسى، وصور وجوها كادت تغيب؛ فالحال الاقتصادية بسخرتها وقسوتها وثقل ضرائبها وسوء جبايتها في قرية (سمخراط) بالبحيرة؛ كانت هي الحال في كل قرية من قرى