قد تفوق الحقيقة أحياناً من حيث الغرابة والروعة والميل إلى المدهش الخارق، كل ما يتصوره الخيال المغرق. وهذه ظاهرة نلمسها في كثير من حوادث التاريخ، كما نلمسها في الحوادث الفردية. ومن الأشخاص العاديين من تهيأ له حياة فياضة بالمخاطر والمغامرات المدهشةتجعل منه شخصية فريدة تخلق بذكر التاريخ، وإن لم تؤثر في مجرى حوادثه. وكثيراً ما تبدو هذه السير الشخصية العجيبة برائع حوادثها ومفاجآتها في لون خارق لا تسبغه الحوادث العظيمة على التاريخ نفسه، ولا يسبغه الخيال المغرق على القصة المبتكرة.
ومن هذه النماذج الخارقة للحياة الفردية، حياة الفنان الإيطالي بنفونوتو وهو نموذج ليس له فيما نعتقد مثيل في الغرب أو الشرق؛ ومما يزيد في قيمته وروعته انه صورة رسمتها يد ذلك الفنان البارع الذي نقرأ حياته، عن نفسه وعن حوادث حياته. وكم من تراجم شخصية بديعة انتهت إلينا لشخصيات عظيمة وبأقلام قوية ساحرة؛ ولكنا لا نستطيع أن نلمس فيها رغم روعتها، تلك الحياة المضطرمة التي تفيض بها سيرة بنفونوتو تشلليني. ومن الغريب أن تشلليني لم يكن كاتبا ولا أديبا، يسبغ من أدبه وقلمه على حوادث حياته سحراً وقوة؛ ذلك أن معظم التراجم الشخصية العظيمة التي انتهت إلينا أتيحت لها أقلام بارعة صاغتها في أوضاع أدبية باهرة، وكثيرا ما يتفوق الجمال الأدبي فيها على روعة القصة وسحر الحوادث. ويعرف الذين قرأوا (اعترافات) جان جاك روسو، أو ترجمة المؤرخ الفيلسوف جيبون لنفسه، أي جمال يسبغه القلم ويسبغه البيان الرائع على تلك الصحف الشائقة التي يقدمها إلينا كل من روسو وجيبون عن نفسه، حتى أن سحر البيان ليسمو في مواطن كثيرة، على روعة الحوادث ذاتها. ولكن تشلليني كان اكثر من كاتب وأديب؛ كان فناناً عظيماً تتجلى عبقرية الطبيعة في مواهبه، ويستمد منها سحر البيان وآية