إن من يتجول في جهات العراق، ويطلع على آثاره التاريخية المنتشرة في أنحائه وزواياه؛ تلك الآثار التي تشير إلى ما كان لهذه البلاد من الماضي المجيد، والحضارة الزاهية، وما بلغته في تلك العصور من الرقي والعظمة، والفن والذوق؛ وخاصة من الناحيتين - المعمارية والزراعية - بما هو جلي في معالمها التي صارعت الدهور، وبارزت الخطوب، وتمردت على الجائرين والعابثين، وأبت إلا أن تستمر على ما قطعته على نفسها من العهود، تسامر النجوم، وتضاحك الشمس، وتماشي الخلود. . . ولا يستكثر على العراق الذي يسميه المؤرخون (مهد الإمبراطوريات) إذا ضمَّ بين أطباقه من النفائس الأثرية ما كان من الأهمية من الدرجة الأولى، وفي طليعة نفائس العالم. . . وقد شاهدنا مواقع مهمة من هذه الآثار في سامراء القديمة، وفي الحيرة، وفي القادسية، وفي بابل وأور، وهي لا تفتأ تناطح الزمن، وتصمد للحوادث غير عابئة بهجمات العواصف ولا مكترثة بزعازع الأنواء. آثار قيمة وكنوز ثمينة؛ تتمثل فيها عظمة الأجداد وفخر الأسلاف.
ولما عاد الأستاذ البحاثة (وولى) إلى لندن بعد أن تولى الحفر في أور للسنة الخامسة قال في حديث له: (نعلم اليوم أن حضارة العراق كانت في درجة رفيعة حينما كان سكان مصر القدماء في حالة الهمجية) ولا يبعد ذلك فإن الآثار التي نراها ونشاهدها والتي عثر عليها حتى الآن لتدل دلالة واضحة على ما كان عليه العراق سابقاً من تقدم في المدنية ورقي في الحضارة.
أما الحيرة فقد أشتهرت بحضارتها الواسعة، وملوكها الذين أسسو المدن حين توسعوا في ملكهم، وامتد سلم إلى بعيد، فشيدوا القصور الشامخة، وأقاموا الصروح والعمارات العالية المشمخرة التي تعلوها الشرفات، الحدائق الغناء، والرياض الزاهرة. . وقد سارت بذكر قصة الركبان، وتغنى الشعراء بخورنقها وسديرها، وأنشدوا القوافي لحيانها وأبيضها. . وفيها يقول عاصم بن عمرو.
صبحنا الحيرة الروحاء خيلاً ... ورجلاً فوق أثباج الركاب