منذ نحو ربع قرن - فقد صرنا نحسب مسافات الزمن بأرباع القرون! - مات لنا قريب شاب، أبوه من سراة الريف، فرافقنا رفاته على قطار خاص إلى البلدة. وكانت العادة في تلك الأيام أن يظل المأتم قائماً أسبوعاً أو أربعين يوماً، وكنت يومئذ مدرساً، وكان الوقت صيفاً، والمدارس موصدة، ففي وسعي أن أشاطر القوم حزنهم إلى آخر المدى، فجاءني يوماً شاب من أقربائي، وانتحى بي ناحية وأسر إلي أن أخته تكاد تموت جوعاً، فعجبت، فإن الخير كثير والطعام وفير، وما يذبح كل يوم من الخراف والعجول يكفي جيشاً. فأخبرني أن الموائد توضع ثم ترفع كما هي، لا تمتد إلى ما عليها يد، وأن أخته تستحي أن تتناول شيئاً، ولكن نساء البيت بعد ذلك يتسللن إلى حجرة قصية فيقبلن على الطعام ويلتهمن منه ما لا يحسب الحاسب، فهن يمسكن عن المطعم علانية ويمترن منه سراً، وأخته تنظر وتتحسر، وقد التوت أمعاؤها من الجوع. ثم سألني:
(والآن ما الرأي؟ أشر كيف تأمر!)
فقلت له:(دع هذا لي)
وللشباب جمحاته وحماقاته - ركبت إلى مدينة قريبة، فاشتريت شيئاً من الرقاق الملفوف باللحم، ومربى، وألواناً من الحلواء، وأرغفة، وعدت وأنا أقول لنفسي:(هذا شيء ينفعها إذا نام الليل)، ولم يكن من السهل أن أدخل البيت ومعي هذا الحمل، تحت عيون هذا الخلق كله، وماذا عساي أن أقول إذاسألني سائل عما لف عليه الورق؟ لهذا اضطررت أن ألف وأدور، وأختبئ هنا وههنا، حتى تيسر لي أن أبلغ غرفتي من غير أن يراني أحد، وبقي أن أنتظر حتى يقبل الليل، وتنقطع الرجل، فأحمل هذه الربطة إلى حريم الدار، والله المسئول أن يوفقني إلى الوصول إلى قريبتنا الطاوية، وأن يقيني عواقب هذه المجازفة! وهل أعدم خادمة تدعوها إلي أو تحمل إليها هذه الرسالة
وجاء الليل، وقمنا إلى المخادع، وكان لي في غرفتي شريك، فذهبت أدخن سيجارة بعد سيجارة، حتى علا شخيره، ففتحت الباب وأرهفت أذني، فلم أسمع شيئاً، فتوكلت على الله، وأقدمت - أعني مشيت مترفقاً حتى خرجت من هذا البناء المهيأ للضيوف، إلى صحن