للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من أسرار الوضع في اللغة العربية]

للأستاذ جلال الحنفي

ليس للشك مجال إلى أفكار الباحثين في أن اللغة العربية ذات سلطان مبين في عالم اللغات؛ وأن معجماً واحداً من معاجم اللغة العربية يكفي للدلالة على أن هذه اللغة لغة بالغة أوج المراتب من بين سائر الألسنة؛ وأن أهلها الذين وضعوها كانوا على جانب عظيم من الرجحان العقلي والنضج والإحساس.

ومن البديهي أن لغة كل قوم حجة لهم أو عليهم. فإذا كانت لغتهم حصيفة موزونة، فهم أولو أفكار عالية وأذهان خصبة؛ وإذا كانت لغتهم ركيكة ضئيلة فإن ذلك يدل على أنهم متفككو عرى التفكير ومتقطعو سلاسل الثقافة.

والعرب وإن كانوا أميين لا يعنون بالقراءة ولا بالكتابة فإنهم استطاعوا أن ينشئوا لأنفسهم لغة محكمة مفصلة في خلال أدوار أميتهم ومن قبل أن ينتقلوا إلى عهود الكتابة والتدوين.

وليس المهم أن يضع العرب الأميون لأنفسهم لغة واسعة للتخاطب كغيرهم من الأمم؛ وإنما المهم أن تكون اللغة التي وضعوها قائمة على مقاييس فنية عجيبة تدهش العقول وتخلب الألباب. ولم يُعرف أن لغة أخرى غير العربية قام فيها الوضع على مثل هذه الملاحظات والدقائق. فكثير من الألفاظ التي أطلقاها العرب على بعض المسميات أو بعض المعاني لم تكن لمجرد التسمية فحسب، بل كانت فوق ذلك لملاحظات فنية بارعة؛ فمن ذلك أن العربسموا المتاهة المخوفة (مفازة) تفاؤلا بالسلامة من المكاره وارتقابا للنجاة من المخاطر؛ وفي ذلك إشعاع على النفوس وإمداد لها بالطمأنينة والرجاء. . . كما أنهم سموا الملسوع الذي لدغته الأفعى (سليماً) ليوحوا إلى نفسه شيئاً من الأمل بالبرء، وليوقعوا في ذهنه بعض الرجاء في الشفاء. . . وسموا الأعمى (بصيراً) ليهدئوا في نفسه ثورة التبرم ولئلا يشعر بأن العمى منقصة في الحياة أو جناية من الجنايات، أو أنه شيء مما يقصر بالمرء عن مساواة الناس في الحقوق. . .

ومن هذا النوع الشيء الكثير من مفردات اللغة يستدل منه على أن الوضع في العربية قام على أركان غير ملحوظة في سائر اللغات العالمية التي توخى واضعوها تركيب الألفاظ لقاء المعاني المقصودة ليستعان بها على التخاطب والتفاهم. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>