لقد هممت اليوم أن أكتب إلى الرسالة الغراء مقالاً ثانياً أستأنف فيه وصف مجالس الأدب في مصر في القرن الثامن عشر في أيام رضوان بك أمير مصر وأحد مليكيها في ذلك العصر، ولكني رأيت الأمر قد استعصى علي إذ جعلت انقل من قول أحد شعراء العصر بعض ما راقني، وذلك الشاعر هو ابن الصلاحي، فرأيت ذلك البعض الذي اخترته قد زاد على المقدار الذي يجمل بي أن أجعله لمقال واحد. فعدلت عن رأيي الأول وقلت حسبي أن أخص بهذا المقال ذلك الشاعر وحده. ولعل الاختصار على حديث شاعر واحد أبلغ في قصدي وأقوى لحجتي التي أرمي من ورائها إلى بيان حقيقة في تاريخ مصر. فان غزارة قول شاعر واحد من شعراء هذا العصر لدليل على أن ثقافة ذلك العصر لم تكن ثقافة ضحلة، بل كانت ثقافة أعمق وأقوى مما يتوهمه الكثيرون
كان ابن الصلاحي ناظماً وناثراً وعالماً من علماء العصر. نال من العلم الموروث أقصى ما يناله المتطلع إلى الحياة العقلية. وقد كان تلميذاُ للشيخ محمد الحفني المشهور وأجازه ذلك الشيخ إجازة علمية قد يكون من الطريف أن ننقلها هنا. قال الشيخ:
(نحمدك يا عليم يا فتاح، يا ذا المن بالعلم والصلاح، ونصلي ونسلم على أقوى مسند، وعلى آله وصحبه معادن الفضل والمدد. أما بعد فان المولى العلامة الفهامة الحاذق الأديب، واللوذعي الأريب، مولانا الشيخ محمد الصلاحي السيوطي قد حاز من التحلي بفرائد المسائل العلية أوفي نصيب، بفهم ثاقب وإدراك مصيب، فكان أهلاً للانتظام في سلك الأعلام، بإجازته كما هو سنن أئمة الاسلام، فأجزته بما تضمنته هذه الوريقات، من العلوم العقلية والنقلية المتلقاة عن الاثبات، وبسائر ما تجوز لي روايته أو ثبتت لدي درايته، موصياً له بتقوى الله التي هي أقوى سبيل للنجاة، وألا ينساني من صالح دعواته في أوقات توجهاته، نفعه الله ونفع به، ونظمه في عقد أهل قربه، وأفضل الصلاة والسلام على أكمل رسل السلام وعلى أئمة الهدى، وصحبة نجوم الاقتدا. كتبه محمد بن سالم الحفناوي الشافعي ثامن جمادي الثانية سنة ثمان وسبعين ومائة وألف)