إن التطلع إلى الأمام، وبحث المستقبل وتصويره ميزات يتسم بها الرجل الحصيف أو الدولة الواعية أو الحضارة العاقلة. ومهما يتضمن هذا البحث من سعة الخيال، وأحلام الشعراء، وظوبيات الفلاسفة فإنه دون ريب يجعل من المستقبل صورة مثالية حية في فكر الإنسان، تتكيف حسب آماله ورغباته وتفرض على الواقع، يقترب منها ويسمو إليها
والعلم اليوم يجتاز مرحلة قاسية عصيبة من مراحل تطوره تدخل إلى نفسه شيئاً غير قليل من الحيرة والقلق على. مصيره؛ فبعض المفكرين يصبون عليه نقمة السماء ولعنة الأرض، ويدعون أنه علة الشقاء والويلات التي تحيق بالبشر وتفسد حياتهم. لقد سخر الأرض لتدب عليها جبال الحديد ملؤها الموت والدمار، وسخر الهواء لتركيب متنه نافثات اللهب وقاذفات القنابل وحاملات الجراثيم والغازات، وسخر الماء لتمخر عبابه مدن النار وألغام المغنطيس التي تلقى في اليم بملايين الأرواح دون أن تقيم للحياة أي وزن؛ وأتاح لنار الحرب أن تمتد وتأكل اليابس والرطب لا يسلم من أخطارها وفظائعها قطر أينما كان موقعه على وجه الأرض. وبوجه عام لقد وضع العلم في يد الشر والعدوان معاول الهدم التي تدك صرح الحضارة وتطمس معالمها
وفشل العلم في أيام السلم أيضاً، فالآلة التي قدمها لتعزز الصناعة وتضاعف الإنتاج وسعت نطاق البطالة وتركت ملايين العائلات تتضور جوعاً وترتجف عرياً وتعمى جهلاً. وحرم العلم ملايين العمال أي متعة وأي هناء بينما كدس لأصحاب العمل المال الطائل والربح الوافر. فالنظام الاقتصادي الذي تمخضت عنه الصناعة العلمية جائر سيئ لا ييسر لجميع الطبقات أن تستفيد من الإنتاج وتأخذ قسطها العادل من الثروة، فكان الفقر المدقع وكانت الأزمات المروعة، وكانت الثورات الدامية
ومن جهة أخرى ينظر رجال السلطة الذين استفادوا من العلم أولاً إليه كلغم خطر يضعه الفكر تحت مناصبهم وعروشهم، فإنه إن قوى وامتد وعم جميع الطبقات كما تبشر الحركات العلمية الناشطة فإن هذا اللغم سيشتعل بالاحتكاك المباشر وينسف تلك الكراسي، وينزع السلطة من أيديهم، ويقلب النظام القائم فتتغير القيم الأخلاقية، وتتعدد أنماط الحياة