للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[غرارة ملقاة]

للأستاذ محمود محمد شاكر

إليك عني، أيتها النفس، فإنا وأنت كما قال عبيد ابن الأبرص:

إذا أنت حملت الخؤون أمانة ... فإنك قد أسندتها شر مسند

وقد أبيت على أن أكتب ما كنت أريد، لأنك أردت أن تكوني لي غير عهدي بك منذ ساعات قلائل، فدعيني أحدث عنك بما أسررت من مضمر أو مكنون.

ما كدت أجلس إلى مكتبي حتى تبعثرت خواطري، وتهاربت مني أفكاري، وانتشرت على عزيمتي، وتفرقت عني إرادتي، وتطايرت في الآفاق سواكن نفسي، وغادرتني همتي، وكأني غرارة ملقاة على مدب الحياة.

وربما هجس في نفسي الهاجس، فما أكاد أقول: هذا هو! حتى أجدني على جناح أمر آخر، وإذا بينهما مسيرة ما بين مشرق الشمس ومغربها. فأين المفر! وكيف القرار! لا أين ولا كيف! بل ألتمس مذهباً لا غاية له، لعلي واجد فيه بعض ما أسري به حيرتي: أن أقيد ما يعن لي - أم ينبغي أن أقول: أن أقيد ما أعن أنا له - على عجل، وبلا ترتيب، وكما يتفق.

ولكن ما نفع هذا لك أنت أيها القارئ؟ هل يعنيك شيئاً أن تطلع على حيرة نفس في ساعة من حياتها؛ أم هل يجدي عليك أن تطلع؟ بل مالي ولك! أتراني أكتب لأنفعك؟ ما أسخف هذا! وماذا عندي مما تنتفع به؟ كيف أستطيع أن أدعي أني أنفع بالذي أكتب آلافاً من القراء مثلك؟ وأنى لي علم هذا السحر: أن أجمع في أسطر معدودات حاجة كل نفس؟ أو ليس من السخف، ومن الغرور أيضاً، أن يزعم امرؤ أنه يملك القدرة على نفع أحد، فضلاً عن آلاف؟ وما أملك إلا أن أصارحك بأني ما كتبت قط إلا لنفسي وحدها، ثم لا ألبث أن أعرض عليك ما أكتب - لا لأعلمك أو أنفعك، بل لتعرف كيف يفكر إنسان مثلك! وكيف يخطئ وكيف يصيب! وكيف يصدق وكيف يخون؟ فإذا كان ذلك كذلك فلا بأس عليك إذن، إذا تصفحتني في ساعة من شتاتي وحيرتي، كما تتصفحني في ساعة هدأتي وسكينتي.

كيف! هل يمكن هذا؟ هل يمكن أن يصبح الإنسان غزارة ملقاة على مدب الحياة، ثم هي إنسان يحس بالحياة وأحيائها يمرون عليه غادين أو رائحين. هذا واطئ يطؤه، وهذا مقتحم

<<  <  ج:
ص:  >  >>