للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يقتحمه، وهذا ذاهل عنه وفي عينيه نظرة المتأمل، وهذا متلفت إليه يرمقه كالمتعجب! وكلهم لا يبالي. وهو أيضاً لا يبالي أن يكون ما كان: غرارة ملقاة على مدب الحياة والأحياء.

ومادامت الغرارة الملقاة تحس بالحياة وأحيائها يمرون عليها غادين أو رائحين، أفليس هذا حسبها من الحياة وأحيائها؟ وما الحياة؟ هل الحياة إلا إحساس محض؟ إحساس بالألم، وإحساس باللذة. إحساس بالرضى، وإحساس بالسخط. إحساس بالجمال، وإحساس بالقبح. إحساس بالنور، وإحساس بالظلام. إحساس بالشبع، وإحساس بالجوع. إحساس بالحلو، وإحساس بالمر. إحساس بالشذا الطيب، وإحساس باللخن الكريه. إحساس مجرد مرهف نافذ لا يعوق نفاذه شيء. إحساس حر كشعاع الشمس.

أو هؤلاء الغادون والرائحون أعرق في حس الحياة من الغرارة الملقاة على مدبها؟ وما الحركة التي تسير بهم غادين أو رائحين؟ أهي تزيد الإحساس وتضاعفه، أم هي تنقص منه وتتحيفه؟ أو ليست الحركة شاغلاً يشغل عن تجريد الإحساس وإمحاض للمحسوس؟ وأيهما أنفذ: غرارة ملقاة يستغرق حسها نابض الحركات حتى تظل حية هامدة، أم غاد ورائح، تتخون الحركة من حسه حتى يكل مرهفه ويفل مضاؤه؟

بل كيف يستغرق الحس الحركة؟ يا عجباً كل العجب! أنه أمر لا يكاد يدركه إلا من مارسه في سريرة نفسه. لذة لا توصف، ولكنها تعقب أحياناً ألماً لا يستقر. لذة تتملى بها وحدك، وإذا هي تنسرب بك إلى جنة مونقة تدلت عليك بأثمارها. أما الألم، فهو الذي يلذعك إذا روعك عن استغراق حسك طارق لم تكن تتوقعه.

أجدني أحياناً في أمر والناس معي، ثم يستغرقني عنهم حس أنفرد به، وإذا أنا معهم ولست معهم. ثم ينبري سائل فيسألني عن شيء غير الذي أنا فيه، فإنتبه كالمذعور، ويختلط علي ما أنا فيه بما سئلت عنه. وعندئذ أرى كل شيء يفر مني كأني ما عرفته من قبل، ويأخذني ما قدم وما حدث، ويخرجني التنبه فسراً من استغراق الحس إلى حركة لم تتهيأ لها، وتتضارب على لساني كلمات لم أردها، وأقول ذاهلاً، ما لو تأنيت قليلاً حتى أستقر لما قلته. أنه قول منزعج عن حقيقته، لو اطمأن لاستقام على وجهه. فمن لي بمن يحس به، حتى يتفق حسي وحسه، ثم يقظتي ويقظته!

<<  <  ج:
ص:  >  >>