للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[في الأدب المقارن]

الإنسان

في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

إذا ما استقر الإنسان في موطن آمن، وارتقت عقليته، لم يعد يكتفي بتوفير حاجاته الجسدية واتقاء قوارع الطبيعة، بل بدأ يفكر في نفسه ومنشئه وغايته؛ لم يعد يكتفي بقبول الحياة على علاتها ومداراة غوائلها، بل راح يتساءل عن ماهيتها وغايتها وما بعدها، وأجاب عن تساؤله ذاك بما تتيح له عقليته البدائية من تفسيرات فطرية، بعضها صادق وأكثرها وهمي؛ ثم ما يزال كلما ترقى في مدارج الفكر يعاوده الشك من حين إلى حين في تلك التفسيرات، ويثور على عقائده المتوارثة، ويتناولها بالتعديل والتهذيب، فيكون من ذلك الدين والفلسفة

ويشارك الأدب الدين والفلسفة في التعبير عن تأمل الإنسان في نفسه، وتساؤله عن نشأته ومصيره، فيحفل الأدب شيئاً فشيئاً بآثار تفكير الإنسان في الحياة والموت، وافتخاره بقوته وسيادته، وجزعه من ضعفه وقصور حيلته، واعتداده بمبتدعاته في مجال العلم والفن والصناعة، وارتياعه من تضاؤل آثاره تلك جميعاً إزاء قوى الطبيعة وأبعاد الكون؛ وتصطبغ تأملاته تلك في عالم الأدب بصبغة البشر والتفاؤل حيناً، وبصبغة التشاؤم والقنوط حينا، حسب ما يسود المجتمع من عوامل الحيوية والثقة بالنفس والإقبال على أسباب المتعة والحبور، أو دواعي الانخذال وسقوط الهمة وفتور العزيمة، وحسب ما يخالج الأديب الفرد من بشر ملازم أو طارئ، وتشاؤم مصاحب أو عارض.

فتأمل الإنسان في نفسه، وتساؤله عن مكانه في الكون، واهتمامه الدائب بسبر قواه وامتحان قدرته واستكناه غاياته ومراميه، كل هاتيك من أظهر ميزات المجتمع المتحضر والأدب الحي. وقد كان ذلك الاهتمام الملح بالإنسان: قواه وطباعه ومواطن ضعفه، ومفاخره ومعايبه ومصائره ومطامحه، من أبرز ظواهر الحضارة الإغريقية وخصائص الأدب الإغريقي والفنون الإغريقية، ففيها تنويه بالجمال الإنساني وترنم بالبطولة الإنسانية، وفيها بجانب ذلك عرض لنقائض الإنسان ومغامزه، وفيها إشادة بما تمهد له الحياة من أسباب

<<  <  ج:
ص:  >  >>