أهكذا، وفي أسرع من رجع النفس يسكت اللسان الذليق، ويسكن العصب الثائر، ويخمد الذهن المتوقد، ويقف الفؤاد الذكي، ويصبح النشاشيبي نفيا في الصحف وخبرا في البلاد، وحديثا في المجالس، لا يقول فنسمع ولا يكتب فنقرا؟!
أهكذا وفي مثل ارتداد الطرف يترك النشاشيبي قلمه سائلا بالمداد، وكتبه مهيأة للطبع، ومجلسه مشتاقا للسماع، ومجلته منتظرة (للنقل) ويذهب إلى حيث لا يرجع ولا يكتب ولا يتحدث؟!
سبحانك يا رب! شعاع أرسلته ثم رددته، وروح ثنته ثم أعدته، وظل بسطته ثم قبضته ولواء رفعته ثم خفضته وبنو آدم العاجزون الضعاف لا يملكون أمام أمرك البادي وسرك المكنون إلا أن يشكروا على العطاء والأخذ، ويحمدوا على المحبوب والمكروه!
كنت ثالث ثلاثة استبقاهم الوفاء بجانب إسعاف في ساعاته الأخيرة؛ وكان الطبيب واقفا يصف الدواء وينظم العلاج ويرشد الممرضة؛ وكان المريض جالسا في سريره حاضر الذهن حافل الخاطر يغالب انبهار النفس من الربو، ويجاذب المواد مارق من الحديث: فهو يضع لسانه حيث شاء من نوادر اللغة، وطرائف الأدب، فينتقل من الكلام في (ليس غير) إلى الكلام في ترجمة (حوتة) لقصيدة خلف الأحمر، حتى إذا سمع الطبيب يصف له البنسلين قطع الحديث وقال بلهجته المعروفة: أنا اكره البنسلين لأنه أنقذ تشرشل! فقلنا له: ونحن نحبه لأنه سينقذ أبا عبيده! وكانت مظاهر العزم في حديث (أبي عبيده) توسع في أنظارنا فسحة الأمل، وتصرف عن أذهاننا فكرة الخوف فلم يدور في خلدنا أن المنية كانت مرنقة فوق سريره تنتظر أنفاسه المعدودة أن تنقضي، وألفاظه المسرودة أن تنفد، فلم يكد السامر ينفض والساهر ينام حتى ختمت على فمه المنون فسكت سكوت الأبد!
ولد محمد إسعاف بن عثمان النشاشيبي بالقدس حولي سنة ١٨٨٢ في أحد البيوتات التي تجاذبت السيادة على فلسطين، وكان أبوه من ذوي الثراء والدين والخلق فنشاه على الطباع العربية الأصيلة من جراء القلب وصراحة الرأي وحرية الضمير. ثم أراد أن يجمع له أطراف المجد بالعلم والمال فبعث به إلى المدرسة البطر بركية ببيروت فشدا شيئا من مبادئ الآداب والعلوم، ثم انقلب إلى أبيه، وكان يومئذ وحيده فنظمه بالعمل في سلكه، ونزل له بالبيع عن اكثر ملكه. واخذ إسعاف يتقلب في ظلال أبيه على مهاد النعيم والخفض حتى