تزوج أبوه زوجه أخرى، ورزقه الله ولدا آخر، فأراد إسعافا على أن يرد إليه ما أعطاه ليكون شركة بينه وبين أخيه، فأبى إسعاف أن ينزل عن شئ دخل في رزقه واصبح من حقه. . . وانشقت العصا بين الأب وابنه، فخرج إسعاف من كنف الأبوة مغاضبا يضطرب في المعاش ويسعى على نفسه، ومنذ ذلك اليوم عرف إسعاف الهم وذاق الألم وكابد البؤس. كان يعمل ليلهو فاصبح يعمل ليعيش؛ وكان يقرا ليلذ فاصبح يحيا ليموت. وولى أبوه غفر الله له وساطة الناس أذناً صماء فلم يعنه على تكاليف العيش بتمكينه من ريع أرضه، فذهب يستقطر الرزق من تعليم العربية في بعض المدارس. وكان يعول بعض الضعيفات من أهله. فتحمل في سبيل ذلك رهقا شديدا بقى أثره بارزا في نفسه طيلة حياته، تعاوده ذكراه في سكينته فيضطرب وفي لذته فيتألم. ثم حسم الله الخلاف بينه وبين أبيه بالموت. فوضع إسعاف يده على نصيبه من الثراء العريض وعاد إليه الحظ باسما بتملقه ويعتذر إليه. فتلقاه الكادح المحروم كما يتلقى الثري المكروب ماء المزن وفي القدس شيد قصره المنيف ليكون مثابة للأدباء ومجمعا للأدب، ثم اقتنى مكتبة من انفس الكتب وأندرها واقبل عليها وهو لا يزال في ربيع العمر فقتلها علما وفهمها وتدقيقا وتعليقا واختيارا واستظهار فلم يترك كتابا مما أخرجته المطابع أو نسخته الأقلام في القديم والحديث إلا قراه وعلق عليه واستفاد منه، ثم وقف بعد ذلك نفسه ووقته وجهده على دراسة الإسلام الصحيح في مصادره الأولى، وتحصيل اللغة وعلومها وآدابها من منابعها الصافية، وأعانه على ذلك قريحة سمحة وبصيرة نيرة وحافظة قوية وذوق سليم، فكان أية من آيات الله في سعة الاطلاع وكثرة الحفظ وتقصي الأطراف وتمحيص الحقائق. ثم جلس على مكتبة كما كان يجلس ابن دريد. عن يمينه زجاجة فيها مداد القلم، وعن يساره أخرى فيها مداد الفكر واخذ يعسل كما تعسل النحل إذا امتلأ جوفها بالرحيق وفاضت بهذا العسل المصفى انهر الصحف والمجلات في الشام ومصر فاشتاره القراء متنوع الطعوم مختلف الألوان متعدد الأسماء ولئن سألوا لمن هذا الشراب أعياهم أن يجدوا الجواب في إمضاءاته الرمزية من نحو (ن) و (أزهري المنصور) و (* * * *) و (السهمي)؛ لأن النشاشيبي لم يكتب للشهرة والمجد، إنما كان يكتب للعصبية والعقيدة. اخلص لله فاخلص لقرآنه، واولع بمحمد فأولع بلسانه. فإذا جلس إلى الناس في القدس أو في دمشق أو في القاهرة كان مجلسه ندوة