حدثت قرائي غير مرة أن ذاكرتي فيها انحراف غريب: فهي ضعيفة كل الضعف فيما يتصل بالأرقام والأعلام، وقوية كل القوة فيما يتصل بالحوادث والمعاني، ولها قدرة عجيبة على تمثل الملامح والأصوات والألوان، فمن السهل أن أصف حادثاً رأيته قبل عشرين سنة، مع الإحاطة بما لابسه من دقائق التفاصيل، ولكن من الصعب أن أتذكر رقماً سمعته قبل يومين، إلا أن يتصل بأمر تلتفت إليه الذاكرة بعض الالتفات، ولأجل هذا أقيد ما يهمني من الأرقام في دفتر خاص.
وفي هذه اللحظة أتذكر جيداً كيف شهدت عدوان الخريف على آثار الربيع، ولم أكن شهدت ذلك العدوان قبل أول أيلول قضيته في باريس، وأتذكر أيضاً كيف كانت قدماي تخبّان في أوراق الأشجار وأنا أخترق حديقة (لكسمبور)، وأكاد أتمثل كيف انتشيت حين رأيت ذلك المنظر الجميل، وما هو في الظاهر بجميل، ولكنه أعانني على فهم جوانب من حيوية الأدب الفرنسي، ففيه ألوف من صور العدوان البغيض، عدوان الخريف على آثار الربيع، بلا تهيب ولا استحياء.
وفي يومٍ عاصف جلست تحت (الدوح) وهو ينظر بحزن إلى تساقط (الورق)، فوعيت من حواره أحاديث لن أنساها ما حييت. وكيف أنساها وقد زلزلت قلبي، وأطلعتني على بعض ما كنت أجهل من سرائر (الأدواح) و (الأوراق)؟
سمعت (الدوح) يقول في صراخ مبحوح:
(إلى أين يمضي هذا الورق الساقط؟ وكيف جحد جميلي عليه؟ حملته وهو ضعيف لا يقدر على التماسك، وأمكنته من شرب الندى وارتشاف أكواب الضياء، وحرمت نفسي عذوبة التمتع بصحوة الشمس في الربيع، ونشوة القيظ في الصيف، ليجد الفرصة لتذوق النعيم، فهل حفظ هذا الصنيع؟
(لقد أبحته أن يمتص دمي كيف شاء، ليواجه نور الوجود بحرية الطفل الغافل عن جهاد أبيه، ولكل أب جهاد يجهله الأبناء ولو كانوا من الملهَمين، فهل عرف الورق الساقط أنني