للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[مقاييس الأعمال]

للأستاذ عباس محمود العقاد

أعمال الناس لا تقاس بمقياس واحد.

لأنها قد تقاس بحسب النيات، وقد تقاس بحسب الغايات، وقد تقاس بحسب الأشخاص الذين يتولونها، وقد تقاس بحسب المناسبات التي تقع فيها.

فتختلف المقاييس على حسب اختلاف هذه الأحوال.

مثال ذلك أنك تنهي الطفل الصغير عن طعام يثقل عليه وتستبيح أنت تناوله، وتكون على صواب في الحالتين.

وأنك قد تنهاه في حالة المرض عن طعام تبيحه إياه في حالة الصحة، ولا تخطيء في هذا الاختلاف.

وأنك قد تمنع أخاك الصغير عن معاشرة أناس، ولا ترى أنت حرجاً في معاشرتهم، لأنك لا تخشى منهم على نفسك كما تخشى منهم عليه.

وقد يحدث العمل الواحد فيتلقاه رجل بالاستخفاف ويتلقاه غيره بالغضب، ولا اختلاف في الأمر غير اختلاف المزاج.

وقد يغتفر إنسان ما ليس يغتفره غيره، لتفاوت بينهما في وجهة النظر، وإن كان كلاهما من أفاضل الناس.

هذه الملاحظة، أو هذه الملاحظات، تزيل كثيراً من اللبس فيما يعرض في سيرة عمر بن الخطاب من الاختلاف بين حكمه على بعض الأعمال وحكم النبي عليه السلام على تلك الأعمال، وكل ما يستفاد من ذلك أن أفق الأخلاق الإنسانية واسع فسيح، وأنها تتسع لكثير من العوارض والأطوار، ولا يستفاد من ذلك حتماً أن هناك تناقضاً في الأعمال والأحكام.

وقد سألني الطالب النجيب (حسين حسين الجزار)، بمدرسة فاروق عن بعض هذه الأعمال التي اختلفت فيها وجهات النظر بين النبي والفاروق، فرأيت من المفيد في دراسة النفس الإنسانية، وفي دراسة العظماء على الخصوص، أن أبين الوجه الصحيح في النظر إلى هذه الفروق، بحيث يبدو من هذا النظر أن عمل النبي جائز من النبي، وأن عمل الفاروق جائز من الفاروق، ولا تناقض هناك، ولا غرابة في كلا الأمرين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>