للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[انحراف المواهب]

للأستاذ أنور المعداوي

قلت في عدد مضى وأنا في معرض الحديث عن الشخصية الأدبية إن من عناصر هذه الشخصية أن يعرف الكاتب أين يضع مواهبه، فلا يدفع بها إلى ميدان لم تخلق له، وأين يركز ملكاته فلا يوجهها التوجيه العقيم الذي لا ينتج ولا يثمر؛ عندئذ يجدي التركيز حيث لا يجدي التشتيت، ويغنى الجهد الذي يبذل في مكانه عن الجهد الذي يبذل في غير مكانه. . هذا الناثر الذي يعالج نظم الشعر فيخفق، وهذا الشاعر الذي يحاول كتابه القصة فلا يوفق، وهذا لقاص الذي ينحرف بريشته إلى النقد الأدبي فلا يخرج بشيء. . . كل هؤلاء ينقصهم هذا العنصر من عناصر الشخصية الأدبية، عنصر الدراسة لقيم المواهب والملكات!.

كلمات قلتها بالأمس وما أحوجها اليوم إلى شئ من الإفاضة والتطبيق، والخروج بها من دائرة انحراف المواهب في ميدان خاص إلى انحرافها في ميدان آخر يتسع فيه المدى، ويرحب الأفق، ويمتد مجال البحث والدراسة، وترد فيه الظواهر الملموسة إلى ما خفى من الدوافع والأسباب. . .

جورج ديهامل الكاتب الفرنسي الكبير وعضو الأكاديمي فرانسيز، كان يعمل في الحرب العالمية الأولى كطبيب في المستشفيات الحربية، وهو من الذين درسوا الطب في بدء حياتهم واشتغلوا بهذه المهنة جرباً وراء الكسب المادي كما يفعل الكثيرون، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها هجر ديهامل الطب إلى الأدب فنبغ فيه نبوغاً أهله لأن يكون عميداً من عمداء الأدب الفرنسي المعاصر. . . ظاهرة تستوقف النظر، وتغرى بالبحث، وتدعو إلى التأمل والمراجعة، وأعني بها ظاهرة انحراف المواهب!.

ولقد كنت أبحث هذه الظاهرة عند عباقرة ثلاثة غير ديهامل يمثلون ثلاثة ألوان من الأدب العالمي الرفيع؛ جمع بينهم في مستهل حياتهم ميل إلى العلم وانصراف إليه، ثم تحولوا عنه إلى الأدب فتهيأ لهم من النبوغ في ميدانه ما لم يتهيأ لهم في ميدان العلم. . . . اول هؤلاء الثلاثة وهو الشاعر الألماني جيته، كان عالماً يبحث في الألوان، ويضع الأصول للرسم والنحت، ويعالج التأليف في الأزهار وفلاحة البساتين. وثانيهم وهو الكاتب النرويجي

<<  <  ج:
ص:  >  >>