كان كل منا قد قص على الحاضرين قصة، أو حكى طرفة، أو روى خبراً، إلا سيدة حسناء، كانت جالسة طيلة الاستماع لكلامنا، وتحبس حديثها علينا، فقال لها أحدنا:
- أراك يا سيدتي تطيلين السكوت، فهل عدمت ما تقصينه علينا؟
فابتسمت المرأة ابتسامة قصيرة، وقالت؛ وكأنها اعتزمت على هجر الصمت الذي لزمته طويلاً، والخوض في حديث طويل:
- ليس فيما سأقصه عليكم، مجلبة لمرحكم وسروركم، ولكنه مع هذا شيء بسيط، أحسست له اضطراباً في أعماق نفسي، وأثراً بين حنايا ضلوعي، ثم اعتدلت في مجلسها، وتابعت قولها:
-. . . قبل أسبوع خرجت مع طفلتي (سوزان) - وهي كما تعلمون، طفلة وديعة، ذكية، في ربيعها الثاني - سائرة بها إلى مدرستها. وكان الجو رائقاً، والشمس مشرقة، فسرنا على قدمينا نجتاز شارع (الشانزليزيه) ونحن أشد ما نكون سروراً بالحياة، وغبطة بالدنيا. فلما وصلنا ملتقى (الرون برون) تقدم منا، بخطوات مرتجفة، وأقدام هزيلة، صبي فقير، ومد نحونا يده الصغيرة المرتعشة، يسألنا الرحمة، ويناشدنا المساعدة، وهو يتكلم بعينيه، لا بلسانه، فهو على ما يظهر، قد عدم المقدرة على الكلام.
وكنت آنئذ، أمسك يد ابنتي بيسراي، وأحمل مظلتي بيميني، وأقول الحق إنني لم أكلف نفسي عناء إخراج كيس نقودي، لأضع في يده شيئاً من المال، فتابعت مسيري مع طفلتي التي كانت تطيل النظر إليه.
وما كدنا نخطو عدة خطوات، حتى انقطعت طفلتي عن الكلام، وكفت عن مداعباتها لي. وأحسست أنا الأخرى الإحساس نفسه والرغبة في الصمت. ووصلنا ميدان (الكونكرد) ولم ننبس لا أنا ولا ابنتي بكلمة واحدة، منذ أو وقعت عينانا على وجه ذلك الصبي المسكين!
وشعرت في أعماق نفسي بشعور من الضيق كان يتزايد ويتعاظم كلما أوغلت في سيري، كما أحسست إنني قد أسأت إلى ذلك السائل المسكين إذ لم أمنحه شيئاً. غير إنني حاولت أن