بديهي أن كل فنان يعتمد في تصوير مجالاته الفنية - بما تستنفذه وتبعثه من تجارب - على رمز من الرموز. فالفظ، واللون، والنغم، كلها وسائل تهدف إلى المعنى الحائش خلفها، فليست هي غايات في حد ذاتها، لأنها تضمحل في ذات الوقت الذي يصل أثرها إلى الآخرين، تتلاشى تماما من عالم الحس، بعد أن خلقت في وجداننا صوراً مترابطة تمام الترابط، متجسمة تمام التجسم، هي عالم الفنان الذي نشاركه هذه المشاركة الوجدانية.
وحينما نعجب بهذا الأثر أو ذاك، لا نفطن إطلاقاً إلى مشكل نقدي يمكن خلف حكمنا العام هذا. إننا نعكس الآثار الفنية على أنفسنا، وقد نسينا هذا الذي خلقها: أي طريق قطعها من اجل الوصول إلى هذه الصورة الخالصة التي نتملاها في لحظات؟. . أي إحساس ملك كيانه حتى تمت هذه المشاركة لوجدانية؟. . ولو حاولنا رد هذا التساؤل إلى أصوله في النفس الفنانة، لأضفنا الكثير إلى ذواتنا المتذوقة، ولأخرجناها من موقعه الحكم الذاتي، والنقد التأثري، إلى مجالات أخرى أهمها تحديد قيمة الأثر الفني مجردا من الأهواء: فكيف يكون ذلك؟. .
لنرجع إلى فناننا ذاته. إننا نجده مهموماً، وهمه لا ينقطع، من أجل الوصول إلى فن خالص. يريد أن يكون فناننا قبل كل شئ، وأثره يريده كذلك فناً قبل كل شئ، ولابد من طريق يسلكه. لابد من اتجاه يتحدد امامه، وكلما جال ببصره في الماضي وجده لا يعطيه الكثير، وكلما اتجه إلى المستقبل، وجد الناس أخلاطا متمايزة، كل منهم يريده فناناً على هواه الخاص، يعطيه ما يوائم مزاجه وحده دون سواه فكيف يعبر وهذا الضجيج يحتاج كل ملكاته ويسلمه إلى قلق واضطراب شديدين؟. .
وفنانا لا يجهل ما يراد منه إنه يعرف أن عليه توصيل ما يضطرب في دحيلته. . وهذا حقاً مشكل هين حي نتأمله من الخارج، ولكنه كل شئ لدى الفنان. ومع توافر وسائل الأداء، ونضوج الموضوع، فإنه يتردد، يتردد كثيراً فإن الصورة النهائية التي تنهي إليها مجالاته العاتية، نسميها في يسر: أثراً فنيا. . ليست إلا هذا الشيء الذي يحنو عليه بكل ما يجرفه من مشاعر، يريدها شيئاً كاملا لا تشوبه شائبة تنجم عن نقص هنا، أو عثرة هناك،