أنظر للحياة من أفق بعيد نظرة سكان الأبراج العاجية من الفلاسفة والصوفيين والعلماء المنتهين الراصدين للحياة من بعد، والذين هم في راحة بعالمهم الرحب الذي فيه لكل خطأ تصحيح ولكل إثم غفران. . . وحينئذ فلا علينا إن سقط وطن أو أهينت عقيدة أو هيض جناح قوم أو هضم حق؛ فإن هذه ظواهر أبدية للحرب بين الخير والشر، وهذه هي شئون الدنيا وسير دولابها:(فالكلاب على البقر) والذئاب على الغنم. . .؟
أم ننظر للحياة من قرب نظرة سكان الأكواخ من العبيد والمساكين والمضطهدين الذين يعيشون بغيظ المحروم، وحقد المغصوب، وشعور الذي يجد الحياة مباحة لكل نفس دخلت رحابها، ولكن يد الظلم هي التي قيدتها وضيقتها ووزعتها بموازين مختلة ومعايير قاسطة. . . فلسنا بعد هذه النظرة بمختلفين لشيء من دنيا الظالمين المترفين، ولا بباكين عليها حين تتحطم بعلومها وآدابها وفنونها وتهاويلها وتزاويقها:(فإذا مت ظمأنا فلا نزل القطر)، (وعليّ وعلى أعدائي يا رب)؟
إن الأبراج من طبيعتها العلو، والعلو من طبيعته كشف ما حوله من محيط واسع، وهو دائماً يجعل الأشياء الأرضية صغيرة حساً ومعنى. ومن طبيعته أيضاً البرودة والتجمد. . . ولكن الأكواخ من طبيعتها الالتصاق بقرار الأرض والإحساس بحرارة معترك الحياة فيها، والاختلاط والانبهام والتداخل بين مشاهدها؛ فلا تميز فيها بين كل حق وكل باطل، وكل بر وكل آثم، وخصوصاً فيما يتصل بالعداوات والحزازات
أما والله لو كان الذين يبكون على فرنسا من أمة غير العرب الذين ذاقوا من كيد فرنسا في مختلف بقاعهم وبخاصة شمال أفريقيا، لكان لهم بعض العذر في أن ينظروا لحياة قوميتهم وحياة أعدائها نظرة ساكني الأبراج العاجية الذين لديهم لكل إثم غفران، وعندهم المقدرة على رحمة أعدائهم ومباركة لاعنيهم. . . ولكن هؤلاء الباكين من أمة يضرها ويخونها أن ينظر فريق من أبنائها في غير الأفق الطبيعي الذي يليق بأمثالهم. يضرها أن ينظروا نظرة الباردين الذين ذهبت منهم (الوحشية) التي لابد منها لكل إنسان يحرص على حقه في