للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الأخلاق وهذه الحرب]

جلست ساعة إلى المذياع أقلب مفاتحه على أفواه المذيعين المختلفين في أقطار أوربا المجنونة، فخيل إلى أني انتقلت إلى عالم آخر من خلق الشيطان تقطعت بينه وبين خلق الله وشائج الآدمية؛ فلا الأيدي تستند في أفعالها إلى العدل، ولا الألسن تعتمد في أقوالها على الحق، ولا النيات تتجه في غاياتها إلى الخير؛ وإنما هو زِياط وعياط من الأضاليل السود والأراجيف الحمق والأفاعيل النكْر يحملها الأثير إلى النفوس الآمنة الرِخوة فترتاع، وإلى القلوب المؤمنة الساذجة فتشك، وإلى العقول الراجحة الوزينة فتدهش.

رباه ماذا جرى لأوربا العالمة العاملة المتمدنة حتى انقلب كل كلامها كذباً لا يستحي، وكل سياستها خداعاً لا يستتر، وكل قتالها تدميراً غاشماً أهوج لا يفرق بين المحارب والمسالم، ولا بين الشاكي والأعزل، ولا بين الرجل والطفل، ولا بين الحصن والكنيسة؟!

كانت الحرب في العصور الخوالي نظاماً من البطولة الإنسانية له سننه وآدابه وعرفه: لا يقاتل القوي من ضعف أو قل، ولا ينازل الكميُّ من هان أو ذل، ولا يطعن الفارس خصمه طعنة الغدر، ولا يعطي المتعهد من ذمته عهداً إلا جعله من ورائه دمه وماله. ثم دخلت الحروب في سلطان الدين فنظمها بقيوده وحدوده تنظيمه للشر الذي لا بد منه، حتى غدت سلاحاً من أسلحة الحق يظهر بها على الباطل. ثم انشعب من نظامها المهذب أنظمة أخرى كالفروسية والفتوة والمرابَطة والكشف وما يدخل في بابها مما يقوم على المروءة والشهامة والشجاعة والإيثار والوفاء والعفة. وجرت المدنية الحديثة في تنظيم الحرب على سَنن الدين والخلق، فكفكفت طغيانها بالقوانين، وقللت عدوانها بالعهود، ووقفتها لدى الحدود التي رسمتها الطبيعة للدفاع المشروع والجهاد المقدس.

وفي الوقت الذي طمحت فيه الإنسانية الأوربية إلى قطع أسباب الحرب بالمجالس التحكيمية والمحاكم الدولية والعصبة الأممية، انبعث من ركنين متجاورين من أركان التمدن الحديث مسيخان دجالان فاستوحيا الشيطان دينين جديدين يجعلان الآخرة للدنيا، والأمة للفرد، والعقل للهوى، والعلم للشر، والحضارة للدمار، والحياة للموت. ثم خرجت هاتان النِّحلتان من الكهوف والمواخير وانتشرتا في أجواء برلين وروما انتشار الظلام المضِل والغاز الخانق؛ فعميت عيون كانت ترى، وغبيت قلوب كانت تفقه، ورمت النازية والفاشية جوانب الأرض وخوافق السماء بالموت الوحي في شتى أشكاله وأهواله، حتى أصبح أكثر

<<  <  ج:
ص:  >  >>