للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أوربا الجميلة خليطاً من الأنقاض والأشلاء، ومزيجاً من الدموع والدماء. وأشد ما أصاب العالم من هذه الحرب الغشوم ضياع ما ورثته المدنية من حُر الخلال وكريم الأخلاق، فإنها القبس الإلهي في الإنسان تصدر عنه الألفة والثقة والاطمئنان فيكون لكل كلام معناه ولكل عَقد أثره. ومن المستطاع تجديد ما دُكَّ من البيوت وأغرق من السفن، وتعويض ما أزهق من الأنفس وأُنفق من الأموال؛ ولكن تجديد ما انهار من البناء الأخلاقي وهو عمل الأديان المختلفة والحضارات المتعاقبة على كر الدهور أمر لا تتعلق به طاقة المخلوق.

افتح المذياع على أبواق الدعايات الأوربية واصبِرْ نفسَك على مكاره الفجور قليلاً تسمع الأعاجيب من فحش الكذب وسوء البغي: هذا يتبجح مما أحرق وأغرق، وذاك يتمدح بما راع وأجاع، وذلك يفيش بما أسر وقتل؛ وكل أمة إنما تبدأ الكلام وتختمه بلعن أختها ورميها بما تبرأ هي منه من التزيد والافتراء والخور والدس واستغلال الضعف في الشعوب الصغيرة. وكل شيء تسمعه من المذياع إلا الصدق والحق والرحمة. ومن كلال الحس وبلادة الضمير أن يصك المذيع مسمعيك بأخبار الدمار والبوار في كل أمة وفي كل مدينة وفي كل أسرة وفي كل نفس، ثم يرسل إليك في خلال ذلك أفاكيه الغناء وأفانين الموسيقى، كأنما فناء الشباب وثكل الوالدين وحرمان اليتامى وشقاء الأيامي وخراب الأرض أصبحت من توافه الأمور التي لا تنبه الوجدان ولا تمس القلب!

من كان يصدق قبل انهيار الأخلاق في الأمم الدكتاتورية أن روسيا تحارب بولونيا وفنلندة، وألمانيا تهاجم بلجيكا وهولندة، وإيطاليا تغزو ألبانيا واليونان؛ وكل أمة من هذه الأمم الباغية الثلاث تستطيع أن تحشد من الجنود ما يزيد على عدد السكان في كل فريستين من فرائسها الست!

إن الدكتاتورية تدير هذه الحرب على غير قانون ولا خلق. ومن الصعب على العقل السليم أن يفرض القانون والخلق فيما يعقب هذه الحرب من سلم ويقوم عليها من نظام. وإذا كانت الأخطاء لا يتألف من مجموعها صواب، والآثام لا تنشأ من جملتها براءة، والأباطيل لا ينتج من تعددها حق، فإن نزوَ النازية وفِياش الفاشية لا يمكن أن يؤديا إلى عدل شامل وسلام دائم. ولا يزال في الديمقراطية المجاهدة رجاء الحق المضاع والخلق الصريع، لأن السلطان القائم على دستور الحق، يساعدك على الانتصاف لنفسك منه بمنطق الحق.

<<  <  ج:
ص:  >  >>