لفتت حوادث فلسطين الأخيرة أنظار العالم مرة أخرى إلى ذلك النظام السياسي الاجتماعي الغريب الذي فرض على فلسطين تحقيقا لمشاريع السياسة الاستعمارية. ففي فلسطين أمة عربية تعيش في ذلك الوطن منذ آماد بعيدة. ولكنها تجد اليوم نفسها أمام خطر داهم على كيانها القومي، وترى اليهودية تمكن من غزو هذا الوطن بطريقة منظمة مستمرة، تنفيذا لعهد قطعته بريطانيا العظمى على نفسها إبان الحرب الكبرى، بأن تعاون على إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين.
وفكرة الوطن القومي اليهودي قديمة ترجع إلى العصور الوسطى. ولكنها لم تكن في تلك العصور التي كانت بالنسبة لليهودية (عصرها الحديدي) أو عصر الاضطهاد الشنيع أكثر من مثل أعلى أو أمنية مقدسة غامضة. ولكنها منذ القرن الثامن عشر تغدو نظرة سياسية اجتماعية ترمى إلى غايات عملية. وكان أقطاب اليهودية في ذلك العصر وعلى رأسهم رجال ممتازون مثل مندلزون ولسنج يرون أن تتخذ القومية اليهودية صيغة محلية، فيغدو اليهود من أبناء البلد الذي استوطنوه مع احتفاظهم بتراثهم الروجي. ولكن هذه القومية المعتدلة التي أملى بها جو التسامح الذي نعمت به اليهودية يومئذ لم تلق كبير تأييد، ولم يطل أمدها، واستمرت الفكرة القديمة على قوتها وتأثلها. ومنذ أوائل القرن التاسع عشر نجد يهود إنكلترا يعملون على تقويتها وتلمس السبل لتنفيذها بالدعوة إلى إحياء التراث اليهودي وإنشاء المستعمرات اليهودية في فلسطين. ومن ذلك الحين تتجه اليهودية ببصرها إلى فلسطين؛ وتتكرر جهودها لإقناع السياسة البريطانية بإمكان قيام وطن قومي يهودي في فلسطين تحت الحماية البريطانية، وأن قيامه يغدو ضمانا قويا لتأمين طريق الهند البري وهنا تتخذ فكرة القومية اليهودية صبغة سياسية واضحة؛ وتبدو الفكرة الصهيونية في شكلها الحديث. والصهيونية هي القومية اليهودية. اشتقت من (سيون) العبرية أو صهيون وهي