أخذت المدينة بأجمعها تستروح النسيم العليل ودلف إبراهيم - كعادته - إلى الشاطئ ليلقى بنفسه في أحضان الطبيعة من عناء يومه المنصرم وليستقبل الحياة الجديدة في غده السعيد، بيد أن إبراهيم لم يستطع أن يتخلص من تأملاته إلا قليلا إذ كانت روحة شاردة كأنها تريد أن تبحث عن سر الصمت العجيب الذي يلف الكون والناس والأشياء، فأخذ يتجه ببصره إلى الأنوار الجميلة التي تبعثها قصور المدينة وطرقاتها، مودعة النهار، مستقبلة الليل كما يستقبله الأحياء. . .
جلس إبراهيم على مقعد خشبي تجاه الشاطئ يرقب المياه المصطخبة ويتمثل الحسن الرائع الذي سكبته الشمس على الشاطئ وهي تكاد تودع يومها المكدود، والناس من حوله فرحون مستبشرون ضاحكون عابثون في أغلب الأحيان، ولكن صاحبنا شارد اللب، ساهم الطرف، والرؤى والأشباح تتراءى أمام ناظريه في هذه اللحظة السعيدة، وكل ما في الوجود ينبئ عن شيء جديد. . . أخذت الشمس تبتعد شيئاً فشيئاً وأخذ الأصيل يفقد بهجته ورواءه، وجيوش الظلام مسرعة، ملحفة في الإسراع، والناس فرحون مستبشرون يودعون الأصيل الحبيب كما ودعوا نهارهم الذي كانت فيه بقية من قيظ وسحابة من عبوس، وأخذ إبراهيم يبعد نفسه عن المقعد الخشبي الذي ألف الجلوس عليه عند الشاطئ ليستقبل الليل. . . .
آوى إلى غرفته يطلب الراحة والاطمئنان وترددت في نفسه هذه الأحاسيس المتباينة من أضواء الحياة ومساربها وأخذ يستعيد الصور الجمة المتباينة ليبتعد بها عن عالم المحسوس. . . أخذت الخليقة تسلم أنفاسها لسلطان الكرى، وأخذت جيوش الظلام تتسلل إلى المدينة رويداً رويدا حتى لفتها بالغطاء الموحش الكئيب، وأضواء المصابيح تبدو خافته باهتة أمام هذا السكون، وإبراهيم يتطلع من نافذته ليبصر الكون، والكون - من حوله - صامت لا يبين، والأغصان هادئة ساكنة والدجى مهود وسنان. يسرح الطرف ناظراً إلى بعيد، محاولا سبر المستقبل ومعرفة الغد القريب، بيد أن المستقبل عالم مجهول. وأحداث الماضي