على الضفة الشجراء من مصيف المنصورة عرفت (على طه)، وعلى هذه الضفة الخضراء من مَرْبعها قرأت (أرواح وأشباح). وكان بين اللُّقية الأولى للصديق وبين القراءة الأخيرة للشاعر إحدى وعشرون سنة
كان حين عرفته في إبَّان شبابه، وكنت حين عرفني في عنفوان شبابي؛ وابن آدم في هذه السن ربيعٌ من أربِعة الفردوس لا يُدرَك بمحدود الشعور، ولا يوصف بلغة الشعر؛ فهو منظور الِخلقة، مسجور العاطفة، مسحور المخِّيلة، لا يَنشد غير الحب، ولا يبصر غير الجمال، ولا يطلب غير اللذة، ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينُشدها الدهر ويرقص عليها الفلك
وعلى ذلك كنا أيام تعارفنا وتآلفنا: هو على حال عجيب من مَواسِّ الهوى وما لا بسها من ألوان وصور، وأنا على عهد قريب من ترجمة (آلام فرتر) وما سايرها من أحلام وذِكَر!
قال لي صديقي (حسين) ونحن عائدان من نزهتنا اليومية في الشقة الخلوية من شارع البحر:
(مِل بنا إلى قهوة (متيو) أعرفك بشاب من ذوي قرابتي يرضيك خلقه، ويطربك حديثه، وقد يعجبك شعره)
وكان شارع البحر كما هو اليوم متنزه المدينة؛ وكان نصفه الغربي لا يزال يومئذ مخطوطاً بين النيل والحقول، فلا ترى على جانبيه غير مَماصِّ القصب، ومشارب الكازوزة، وعريشة من عرائش الكرم وألفاف الشجر تتفيأها هذه القهوة
دخلنا القهوة فوجدنا في باحتها بعض الإغريق، وعلى إحدى مناضدها المنعزلة فتى رقيق البدن شاحب الوجه فاتر الطرف، ينظر في سكون ويقرأ في صمت. فلما رآنا هشَّ بقريبه ورفَّ لي، ثم كان التعارف. وطارحناه طرفاً من الحديث؛ ثم طلب إليه صديقي أن ينشدنا بعض شعره، فنشط لهذا الطلب وارتاح كأنما نفَّسنا من كربه، أو خففنا من عبئه؛ ثم قال في سذاجة الريفي ووداعة الطفل:(نشرت لي جريدة (السفور) هذه القصيدة وقدمتها بهذه الكلمة). ثم أدى المقدمة عن ظهر الغيب وهمَّ بإنشاد القصيدة. وكنت حين ذكر السفور قد