عاش هذا الرجل ببغداد في القرن السادس الهجري، في الوقت الذي كان قد مضت فيه حقبة طويلة على اكتمال الحركة العلمية في العصر العباسي ونضج ثمارها، وانتقلت من مراحل النقل والترجمة والشرح والتلخيص والتمحيص، إلى طور الإنتاج والاختراع والإنشاء. وكان هذا التقدم العلمي على عكس التدهور ولاضطراب السياسيين، أو قل أن الازدهار العلمي قد عمر أكثر من الازدهار السياسي.
ولا أسترسل في ذلك، فلنعد إلى صاحبنا، وهو أمين الدولة ابن التلميذ الطبيب الأديب. قالوا: أنه كان أوحد عصره في صناعة الطب، وكان إلى ذلك أديبا، له شعر جيد ورسائل بليغة. ولم يجذبني ما رووا عنه من الشعر والنثر ومن البراعة في فنون العلاج الطبي، بمقدار ما راعتني صفات أخرى فيه، يسمونها في عصرنا (واجب الطبيب الإنساني) وقد عرفه واجبا عمليا قبل أن يأتي زماننا فيردده كلاما طليا. . .
كانت داره بجوار المدرسة النظامية في بغداد، فكان يتفقد معلميها وطلبتها، إذا مرض أحدهم نقله إلى داره وقام عليه في مرضه، فإذا شفى أذن له في الانصراف ووهب له دينارين.
وعرض لبعض الأمراء النائين مرض عضال، فقيل له ليس لك إلا ابن التلميذ وهو لا يقصد أحدا. فقال: أنا أتوجه إليه، فلما وصل أنزله ومن معه في ضيافته، وعنى بمعالجته، فلما برئ الأمير وتوجه إلى بلاده أرسل إلى ابن التلميذ مع أحد التجار مالا كثيرا وهدايا ثمينة، فامتنع من قبولها وقال: أن علي يمينا إلا أقبل من أحد شيئا. فقال التاجر: هذا مقدار كثير. قال: لمل حلفت ما استثنيت. وأقام التاجر شهرا يراوده فلا يزداد إلا إباء. فقال له عند الوداع: ها أنا أسافر ولا ارجع إلى صاحبي، وأتمتع بالمال فتتقلد منته وتفوتك منفعته ولا يعلم أحد انك رددته. فقال: ألست اعلم في نفسي أني لم اقبله؟ فنفسي تشرف بذلك علم الناس أو جهلوا!
وقد اعتاد معاصرونا أن ينتسبوا إلى شرف المهنة، ولكن ابن التلميذ كان الأمر عنده ابعد غورا، كانت أصوله في نفسه، فقد درس الفلسفة ومزج الحقائق الخلقية بنفسه ودرس الطب