للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بيني وبين نفسي]

للأستاذ على الطنطاوي

نظرت اليوم في سجل ميلادي، فوجدتني على أبواب الثلاثين فتركت عملي وجلست أفكر. ماذا بقي لي من هذه السنين الثلاثين يا أسفي! لم يبق إلا ذكريات واهية تحتويها بقية قلب تناثرت أشلاؤه على سفوح قاسيون في دمشق، ومسارب الأعظمية في بغداد، وغابات الصنوبر في لبنان. . . إي والله، وعلى طريق الأهرام في مصر، وضفاف (الشط) في البصرة، وحوائط النخيل في يثرب أشلاء من قلبي وأشلاء. . . فماذا أفدت من عمري الضائع وشبابي الآفل؟ لا شيء! لا مجد ولا مال ولا بنين. لم أفد إلا اسماً مشى في البلاد فحمل قسطه من المدح والذم، والتمجيد واللعن. ولكني كنت في معزل عن هذا كله فلم ينلني منه شيء.

إن اسمي ليس مني. إنه مخلوق من حروف، ولكني إنسان من لحم ودم. فهل تشبعني الشهرة، أو يكسوني الثناء؟ ولم أملك إلا قلباً أحبّ كثيراً، وأخلص طويلاً، ولكنه سقط كليماً على عتبات الحب والإخلاص، ورأساً حشوته بما وجدت من العلوم والمعارف فأثقلته علومه عن التقدم، فاحتلت مكانه الرؤوس الخفيفة الفارغة. . .

فيا ليتني علمت من قبل أن الحياة مثل اللجة، يطفو فيها الفارغ ويرتفع، وينزل الممتلئ ويغوص

إني لأتصور الآن كيف كنت أنظر في طفولتي إلى أبناء الثلاثين، أولئك الشباب الكمّل الذين بلغوا قمة الحياة وعرفوا الاطمئنان والاستقرار، فأجد بيني وبينهم بوناً شاسعاً، وأرى أني لن أبلغ الثلاثين أبداً. . . ذلك لأن كل ما أعلمه أني ولدت وأنا أبن أربع سنين. فأدخلت المدرسة. فكنت أعيش فيها سنة لأنجح في الامتحان، وأرتقي من صف إلى صف، وأستمتع بالعطلة. فلما أكملت دراستي العالية ولم يبق من مدرسة، ولم يبق امتحان وقفت فلم أتقدم، وفقدت غايتي فلم أعد أحس أني أعيش؛ ثم تلفتّ إلى الماضي أعيش بذكراه، فأصبح كلما انقضى علىّ عام رجعت فيه سنة إلى الوراء، فأنا أصغر كلما كبرت، وأدنو من الطفولة كلما نأيت عنها. فمتى أبلغ الثلاثين، وأين أحط رحالي بعد هذا المسعى؟

وغشيت قلبي غاشية من غّم، فأشعلت عوداً من الكبريت لأوقد دخينة، وكنت في ذهلة

<<  <  ج:
ص:  >  >>