فسرت النار في العود ثم تأججت وتوقدت، وأنا أنظر إلى اللهيب جامد العين محدقاً في عالم بعيد الغور حتى أحسست بحرارة النار في يدي، فانتبهت وألقيت العود، فإذا هو قد استحال إلى فحمة سوداء ضعيفة تطير مع النسيم. . . فقلت: هذه هي الحياة. إن الألم الذي أحسسته يلذع نفسي هذه العشية كلذع النار أصبعي، سينتهي بي إلى مثل هذا المصير. سأمضي كما مضى هذا العود، ولكني لا أخلّف ورائي شيئاً. لن أدع مالاً ولا جاهاً ولا عملاً، لأني اشتغلت وا حسرتي بالأدب. .
ويا ليتني تفرغت بعد الأدب، ولم يستغرق حياتي الكدح للعيش. . . إني لم أعمل شيئاً. إن في رأسي وقلبي شيئاً كثيراً، ولكن قلمي مكسور، ودواتي جافة، ولساني مشدود بنسعة، فأنا لا أستطيع أن أقول. . .
عندي ألحان كثيرة، فأنا أحب إن أغني، ولكن الغناء يستحيل من الضيق إلى زفرات تخرج مقالات فيحسبها الناس ألحاني كلها، إلا أن ألحاني لا تزال في صدري لم يسمعها بشر.
وماذا ينفعني أن يسمعها الناس فيطربوا ويصفقوا وأتفرد أنا بالخيبة والألم؟ إن الناس لا يألفون إلا الأغاني الفارغة المدوية، فلتبق أغاني العذبة في صدري، أسمعها وحدي من غير أن يتحرك بها لساني، لأن لساني مشغول بإلقاء الدرس!
كل ما أكتب زفرات متألم وإشارات أخرس، فهل يأتي اليوم الذي تنحسر فيه الزفرات عن الأغاني والإشارات عن الألفاظ والمعاني. . .؟
على أن هذه الزفرات وهذه الإشارات عزاء نفسي، فكم لهذه (الرسالة) من فضل عليّ، وكن من الفضل لهؤلاء الأدباء الذين يستطيعون أن ينقلوني من دنياي هذى الضيقة، إلى دنيا واسعة تطير روحي في أجوائها حرة طليقة! فهل يدري الزيات، أو هل يدري معروف الآرناؤوط، أني طالما أحييت الليالي الطويلة في فرتر وروفائيل وسيد قريش وعمر بن الخطاب، وأني طالما لجأت إليها أقرع بابها وأتواري وراء سورها في جنان سحرية لا أستطيع أن أصفها بأكثر من إعلان العجز عن وصفها؟ فأي عالم في رأس معروف، وأي دنيا في صدره؟ وأي نبل وسمو في هذه اللغة، لغة معروف ولغة الزيات ولغة الرافعي هذه التي تتيه بجواهرها ولآلئها على حين تمشي لغات كتاب العصر بأسمالها البالية ومزقها المخرَّقة. . . لغة فخمة تشعرك بالسيادة والعظمة، لا كهذه اللغات الهزيلة العارية. . .